طواغيت الجمال

الحمد لله، أما بعد:

فمن هم المجرمون في حق البشرية الذين اكتسبوا الحق في تحديد معايير جمال الأنثى ثم قاموا بإصدار تعميم على جميع نساء العالم وإخضاعهم لهذه المعايير! وعلى أي أساس تكون الشفاه الممتلئة أو المنفوخة أفضل من الشفاه غير الممتلئة! ولماذا تكون الحواجب الرفيعة أجمل من الحواجب العريضة في بعض المواسم ثم ينعكس الأمر في مواسم أخرى! هل ورَّثت آفروديت لعبّادها من بني اليونان دستورا للجمال فتوارثوه حتى وصل إلى ملوك الموضة! ولماذا تُنتقص أنوثة فلانة بسبب زيادة وزنها أو كبر حجم عضدها أوغير ذلك من الأسباب التافهة، ولماذا يضاف لجنس النساء هم آخر فوق قائمة الهموم وهو إثبات أنوثتها وجمالها وفق هذه المعايير الظالمة!

لقد جعل الله سبحانه اختلاف الخلق آية من آيات قدرته فقال: ( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) مع اشتراك الجميع في كونهم خلقوا على أحسن تقويم (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم). إن الجسد النحيل جميل عند طائفة من الناس ويفضلونه، والجسد الممتليء جميل عند طائفة من الناس ويفضلونه، كما أن الجسد السمين جميل عند طائفة من الناس ويفضلونه وإن تفاوتت النسب بحسب كل فرد وكل بيئة، وهكذا مع العيون، وهكذا مع الأنوف، وهكذا مع كل شيء، ولست أستنكر أن تتوافق المعايير الحالية مع ذوق طائفة من الناس، إنما أستعجب أن تكون ذوق الجميع في سابقة بشرية لا أظنها حصلت لأسلافنا من البشر.

إننا نعيش في زمن يعلي فيه الناس قيمة الحرية لكن كثيرا منهم هم رقيق في حقيقة الأمر لكثير من القيود شعروا أو لم يشعروا، زمن يفرُّ الناس فيه من العبودية لله لكنهم يقبلون بالعبودية لبعضهم، وهل القبول والاحتكام لمعايير الجمال المسيطرة علينا إلا لون ونوع من أنواع العبودية! إن حديث: “تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم…” ليس إلا ضرباً لبعض الأمثلة التي يتعبد فيها البشر لغير الله، وإلاّ فأنواع العبودية كثيرة وتتجدد في كل عصر وزمان.

والأسوأ هو انجرار طوائف كثيرة من جنس الرجال لذات الفخ!، مع جزمي بأن هؤلاء الرجال لو لم يكونوا قد تشربوا هذه المضامين لا شعوريا من الإعلام لكان لكل منهم ذوق خاص به في جمال المرأة مختلف عن الذوق الذي تبرمجوا عليه، عزيزي الرجل، إن تحديد جمال الأنثى الملائم لك هو قرار ذاتي تتخذه بعد مشاورة مع هرموناتك وتلافيف دماغك، ولاشأن لأحد به، وإني لأخشى يا معشر الرجال أن يكون في رضوخنا لتلك المعايير إخلالاً منا بوصية النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء خيرا.

وبهذه المناسبة أذكر قصة طريفة…

يخبر أحد الإخوة ممن لم يعتد مشاهدة الفضائيات والمسلسلات أنه عندما تقدم لخطبة الفتاة التي يريد الزواج منها وشاهدها في الرؤية الشرعية أعجبه جسدها، وكانت ممتلئة الجسد، فكان ذلك من جملة ما أعجبه ليحسم أمره، المهم أن الأمر قد تم وتمت الخِطبة…

طبعا انخرطوا بعدها في سلسلة من الإجراءات تمهيدا للزواج، وفي اليوم الذي عقد عليها فيها وصارت زوجة له دخلت عليه وهنا كانت المفاجأة!

لقد تغير جسد الفتاة وصارت نحيلة أو رشيقة بزعمهم بعد أن كانت ممتلئة! طبعا أصيب العريس بشيء من خيبة الأمل وعند سؤاله العروسة عما حصل أخبرته أن العديد ممن حولها ضغطوا عليها ترغيبا وترهيبا بضرورة خفض وزنها قبل الزواج حتى تكون محظية عند العريس، وأن الرجال يحبون كذا ولا يحبون كذا ونحو ذلك من الكلام الفارغ التافه، وظنت الفتاة صحة هذه الأحكام المطلقة فأرغمت نفسها على الدخول في برنامج عنيف نجحت من خلاله في خفض وزنها بشكل قياسي في مدة وجيزة على حساب عدد من الخسائر من صحتها النفسية والجسدية التي لم تكن تتوقعها!

طبعا رفض العريس كل هذا الكلام الفارغ وعادت العروسة لاحقا إلى الوزن الذي أحبه الزوج وقت الخطبة وعَرَفَتْ بعدها أن مقاييس الجمال هي شيء فردي وذوقي تماما يرجع لها ولزوجها وأنها شيء من خصوصيات الأسرة الذي لا شأن لأحد من الناس به.

تأملوا يا أيها المتفكرون كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل مسألة المظهر الخارجي للمرأة أمراً نسبياً بحتاً يختلف بحسب كل زوج حين قال في مواصفات الزوجة المرغوبة: “إذا نظر إليها سرَّته“، إن السرور الذي يتدفق في قلب الرجل حين ينظر إلى امرأته لهو أمر أبعد بكثير من هذه المعايير، قد تكون نظرتها الحانية المفعمة بالعشق هي ما تسره حين ينظر إليها وليس اتساع عينها ولا استطالة رموشها!، وقد تكون أسنانها المكسرة حين ينكشف عنها ثغرها الصغير الباسم هي ما تحرك الأنس في داخله، وقد يكون منظرها وهي مرهقة قد بلغ منها الإعياء مبلغه بسبب دهدهتها لطفله في حجرها طيلة الليل هو ما يبعث الفرح في نفسه لاطئمنانه على شلال العطف والرعاية الذي يتدفق على فلذة كبده! وكذلك في حديث الأمر برؤية المخطوبة قال صلى الله عليه وسلم: “إن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل” فجعله أمرا مطلقا يختلف باختلاف الأذواق، لأن ما يدعو إلى نكاح امرأةٍ ما يختلف باختلاف الناظر! فلم يأمره بالنظر إلى لونها تحديدا أو شعرها أو…إلخ وإنما أتى بصيغة عامة مرتبطة بشخصية كل ناظر!

ختاما لا أعتقد أن المجرمين في حق البشرية هم فقط من يؤججون الحروب ويبيعون الأسلحة والمخدرات! إن من يتسببون في شعور معظم نساء الكوكب أنهن ناقصات الأنوثة بسبب عدم استيفائهن لأمور خَلْقيةٍ خارجةٍ عن اكتسابهن في كثير من الأحيان هم مجرمون ضد الإنسانية! وإن من يتسببون في زهد كثير من الرجال في تقدير جمال زوجاتهم وبناتهم بسبب عدم استيفائهن لهذه المعايير هم مجرمون ضد الإنسانية! وإن من يتسببون في اندفاع كثير من بنات آدم نحو العمليات التجميلية التي يدخل بعضها في صميم خطة إبليس (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) هم شركاء لإبليس وإن لم يشعروا، إنهم سبب كبير ومؤثر في كفران كثير من الناس لما أنعم الله به عليهم في مظاهرهم وأشكالهم وعدم شكران الله عليها، لكنهم للأسف مجرمون يحظون بالثراء والتبجيل والخضوع!

حسنا لقد طالت التدوينة ولا أرغب بالإطالة عليكم معاشر المتفكرين ولكن أريد قراءة تعليقاتكم! هل تروني مبالغا في ردة فعلي أم لا، وهل تشعرون أن لكم ذوقكم الخاص بكم في جمال المرأة أم أنكم ترون أن المعايير السائدة هي الصحيحة فعلا؟


19 رأيا حول “طواغيت الجمال

  1. هو عصر تسليع المرأة، ومافيا التجميل، ولهؤلاء دورهم الكبير في صياغة معايير الجمال الوهمية والله المستعان

    Liked by 2 people

  2. درة ثمينة من بنيات أفكاركم المتميزة ماشاء الله.. وجميل النظر للموضوع من هذه الزاوية اللطيفة

    Liked by 2 people

  3. المراة هي الام والاخت والابنه والزوجه
    هي نعمه ورحمه مهداة من الرحمن
    استخدمها الظلمه وافسدوها لتمرير اجندة في اعماقهم ….
    فلا بد من الطيبون من حمايتها والاهتمام بها..

    اعجبني كثيرا احرفك وكلماتك ابو اويس وفقك الله

    Liked by 2 people

    1. شكرا أخي / على هذه اللفتة الكريمة ، والتنبيه الرائع حول هذه القضية التي انخرط في حبالها الشباب والفتيات
      بدون تفكير ولا تعقل ولا احتساب للعواقب
      لسنا ضد جمال المرأة أو استخدام ما يناسبها من مواد مباحة لتفضي على جمالها لمحة نظارة ووضاءة لكن يصل الحد إلى تغيير خلق الله فهذا الفخ الذي تقع فيه الفتاة بحجة شكلها غير جميلد
      لذا أضم صوتي للزميل أن نراجع منهجنا ونقتدي بأمهاتنا وسلفنا كيف كانوا يحافظون على دينهم ومبادئهم وأخلاقهم
      ترى من الأمهات والجدات اذا ما بالغت بلغت عمرا طويلا ولا زالت نظارة وجهها متلألئ وهي لم تعرف في حياتها مساحيق ولا مواد تحميلة ، تتحمل بالمواد الطبيعة التى أتيحت لها ، فمن هذا المنبر أقول مراجعة مع النفس وتفكير منطقي متزن وسوف تصل الفتاة إلى نتيجة تتخذ منها قرار في كيفية التعامل مع هذه القضية

      Liked by 2 people

  4. قديما قال الأول :
    عشقتها شمطاء شاب وليدها
    وللناس فيما يعشقون مذاهب
    أعتقد أن هناك قدرا من الجمال يتفق عليه المتذوقون وقدرا مما يختلفون فيه والانجذاب ليس سببه دائما الجمال الظاهر والصورة المستحسنة ..
    سلمت أناملك 🌹

    Liked by 2 people

  5. إن البشر مختلفين في ألوانهم وأطوالهم وأوزانهم وأشكالهم ولا يمكن وضع معايير محددة للجمال..
    وإن هذه المعايير هي شكل من أشكال مصادرة الحرية ومحاكمة للجمال لدى نساء البشر لنموذج واحد.
    بوركت وبورك قلمك.

    Liked by 2 people

  6. لم تبالغ أبداً … بطبع لكل منا وجهة نظره في تحديد مقاييس الجمال .. كما أني ارى أن في احيان كثيرة حب شخص معين بذاته قد يجعلك ترى صفاته مقياساً للجمال في نظرك، فكل ما يشبهه ترى نفسك مالت اليه ورأته جميلاً على غير عادتك قبل ان تحبه… لم يكن أبي باهر الجمال او حتى جميلاً على المقاييس الموضوعة في وقتنا الحاضر لصورة الرجل الوسيم لكن اكاد ان اقسم اني لم ولن أرى اجمل منه قط … وكذا لو احبت المرأة زوجها والعكس، وكذا الام مع ابنائها كما يقال ” القرد في عين امه غزال”😂

    Liked by 1 person

  7. موضوع جميل جدا ، لدي صديقه اعاني معها من انها لا تتقبل بعض الاشياء في نفسها واقول لها دائما انتي جميله في نظري وهذا يكفي وبغض النظر اني فتاة مثلها الا اني احبها كأنها جزء لا يتجزأ مني واعتبرها كأخت لي اكثر من صديقه واراها اجمل النساء واخبرها دائما بانها محظوظه بمن سيمتلك قلبها وروحها الجميله ، ايضا يجب على كل شخص تقبل نفسه كما هي لان الشخص اذا تقبل نفسه ازداد جماله لان الثقه فالنفس تظهر للغير ان هذا الشخص مرتاح نفسيا ولن تهزه شعره اذا اتته تعليقات غير محببه ، ومثل القول المأثور الثقه فالنفس كنز لا يفنى ولا نقصد الكِبر انما نقصد ثقه الشخص بأنه جميل ولا يحق لاحد بان يستنقص من جماله بحجه انه يرى معايير محدده للجمال بنظره ، يتضح من تعليقي ان الموضوع لفتني جدا واعجبني كثيرا كيف انه مازال هناك فئه من الناس تشجع على حب النفس وتقبلها كما هي ، ونوعا ما الموضوع مرتبط بالحب ايضا فمن يحب احدا صدقا لن يرى عيبا واذا رآه احبه ايضا فليس للحب معيار كما ليس للجمال معيار ، شكرا لطرحك موضوعا رائعا كهذا يادكتور عبدالله 🤍

    إعجاب

    1. جميل، فعلاً الثقة في النفس تزيد الإنسان جمالا وأثرا في نفوس وعيون من حوله، هذا شيء ملحوظ وإن كنت لا أدري ما تفسيره، لكنه يؤكد أن لدواخلنا تأثيرا حقيقيا على الخارج، و(إنما الأعمال بالنيات)، شكرا لمرورك ريناد

      إعجاب

  8. التنبيهات: طبقات الزَّيْف

أضف تعليق