زوجة من كريبتون

الحمد لله، أما بعد:

يعود خائر القوى من وظيفته بعد أن قضى ثلث يومه فيها، قميصه الداخلي ملتصق بجسده من العرق رغم كفاءة مكيف السيارة، لكن التيار البارد لا يستطيع أن ينفذ إلى مغابن جسده ولا أن يغطي كل سم مربع في بدنه بطبيعة الحال، يلِج إلى بيته فتسمع صوت فتح المزلاج فتُهرع لاستقباله قادمة من المطبخ الذي كانت ما تزال تنتقل فيه بين قِدر وقِدر وتمزج بين خليط وخليط حتى تصل إلى النتيجة المعيّنة التي اهتدت إلى أنها (مزاجه) الخاص به والذوق الذي يلائم حَلَمات لسانه بالذات… لعل في الجنة فردوساً خاصاً لأولئك الذين يستغرقون في صنع وجبةٍ عدةَ ساعات ليأكلها أحبابهم في دقائق معدودات، إنه تفانٍ عظيم لا أتوقع أن أقدر على فعله في يوم من الأيام…، وسواء أسعفها الوقت لعقص شعرها وترتيب هندامها قبل لقائه أو استقبلته بروائح البصل والثوم والطماطم فإن لاحتضانها له وسلامها عليه نكهة خاصة في كلا الحالتين، المهم أنه عاد من عالم الشتات إلى عالم السكون (لتسكنوا إليها).

يزدرد طعامه جائعا، هذا هو الطعام الحقيقي الذي يوصف بأنه (made with love) وليس طعام الشوارع المليء بالمنكِّهات الصناعية والزيوت المهدرجة وغيرها من المواد التي تؤسس لعلاقات وطيدة ومتينة مع أمراض القلب والسكر، بينما تجلس هي بجواره تأكل وتغرِف لهذا وتطعم ذاك الذي لا يزال يحتاج لمن يطعمه، هذا يسقط شيئا من الطعام، والثاني لم يعجبه المذاق- الذي أعجب أباه- تفعل كل ذلك رغم أنها لا تملك أربعة أيادٍ، لا شك أنها معجزة!

بعد هذه الوليمة الشهية يحتاج إلى أخذ قسط من الراحة فيتجه إلى غرفة النوم، بينما يتسلل النوم رويدا رويدا إلى عينه يتناهى إلي مسامعه صوتها وهي تكتم صوتها الغضوب الزاجر للأولاد عن أن يصدروا صوتا لأن والدهم نائم، ذات مرة سمعها وهي تقص عليهم كيف أن بابا يخرج كل يوم فيعمل من الصباح لكي يتمكن من استئجار هذه الشقة الجميلة ومن شراء كل هذه المقاضي، فلا عجب بعدها أن صار يلمح في نظراتهم له شيئا من الإعجاب والامتنان، لم يفكروا قط أنه بدون هذا الراتب فليس هناك بيت ولا طعام، لكنها علمتهم.

بعد عودته من الاستراحة أو بعض المشاوير يقوم بخلع ملابسه استعداداً للإيواء إلى مخدعه حتى يتجهز ليوم ثانٍ من ملحمة الحياة، ينام هانئا لكنه قد يصحو أحيانا من هذا الرضيع المزعج فيمسك نفسه عن شتمه أو لطمه- مشكوراً مأجوراً- والمسكينة ما تفتأ تصحو على إزعاج هذه الهبة الكبرى، تارة يبحث عن حليبها، وتارة يبحث عن رائحتها ليطئمن أن الدنيا على ما يرام، وتارة ليدفن وجهه بصدرها هرَبا من توعك في معدته المخلوقة حديثاً في هذه الدنيا، إلى غير ذلك من احتياجاته التي لا يزال الأب إلى الآن محتاراً كيف تفهمها هي في وقت اليقظة وترجح الاحتمال الصحيح منها مع مخلوق لا يعرف كيف يتكلم…إن لهؤلاء الرضع لغة خاصة بهم تتناقلها هؤلاء الأمهات جيلاً بعد جيل، لها قواعدها ولها أصولها التي لا يعرفها مثله وإن كان يشغل منصبا يحتك فيه بعشرات الموظفين والعملاء ويعرف كيف يخاطبهم ويفهمهم! ونعم، صحيح أنه قادر على العكوف في مكتبه والقراءة فيه وممارسة الإبداع العلمي لعدة ساعات في اليوم، لكنه يشعر بارتباك وعجز حقيقي عندما تمرض الأم ويضطر إلى ممارسة بعض أدوارها يوما أو بعض يوم.

يلاحظ طفلته الكبرى وقد بدأت تخجل من الظهور أمامه مكشوفة الكتفين فيبتسم غير مستغرب، ثم يلاحظها بعد ذلك وقد بدأت تتقافز أمامه معلنة رغبتها في ارتداء عباية رغم عدم بلوغها سن الوجوب فيبتسم غير مستعجب، إنها تقضي معهم معظم اليوم فلا عجب أن يتشرَّبوا طباعها وأخلاقها

هو مشغول بدوامه، ثم مشغول بالراحة بعد الدوام، ثم مشغول بحقه في شيء من الترفيه من الدوام، ثم مشغول بحاجته إلى النوم استعدادا للدوام، وهكذا في عجلة لا نهائية، تشبه العجلة التي يضعونها لذلك الكائن اللطيف (الهامستر)

في كل التشيكلات القتالية والمنافسات أو الصراعات الجماعية عموما دائما هناك فئة المهاجمين، وهناك فئة الداعمين، فأما فئة المهاجمين فدورها منصب على الاشتباك المباشر وما يتعلق به، وأما الداعمون فهم الذين يتولون علاج المصابين ونقل الإمدادات والذخائر والتعليمات ونحوها، ولأجل هذه المهمات المركزية والأدوار المصيرية فإنهم يتجنبون الاشتباك، ربما تكون الصفوف الأمامية هي التي تنال الحظ الأوفر من تسليط الضوء وثناء العامة، لكنها لا يمكن أن تنتصر في المعركة بدون هذا الدعم من الخلف، تخيلوا لو أن عارضاً من المس لحق بوحدات الدعم فقررت فجأة الانتقال بكاملها إلى خط الاشتباك! يذكرنا هذا بوحدة الرماة عندما نزلت من جبل أحد!

رغم ذلك لم نسمع قط من يقلل من دور فئة الداعمين أو دور المدافعين في الفرق الكروية مثلا، فعلام هذا التقليل من الدور الأساسي والمحوري الذي أناطه الله بالزوجة في البيت، هل يعتبرون احتضان الرجل- وهو طفل أيضا بالمناسبة لكنه كبير الحجم- ودعمه أمرا ثانويا؟ أم هل يعدون تربية الطفل ورعايته مثل تربية الماشية أو النبات على سبيل المثال! فلا يحتاج إلّا إلى تعليف وماء! وهل يمكن أن تحل الخادمة محل الأم! هل في مستطاع الخادمة أن تملأ أطفالنا بالشبع العاطفي! أم هل تستطيع أن تغرز في نفوسهم التعلق بالله وحب الدين! ولماذا يكون الأطفال هم أرخص عنصر في المعادلة! وهل صار بناء إنسان بنيانا متكاملا أقل أهمية من شغل وظيفة مكتبية على سبيل المثال!

لقد بين الله أن زينة الحياة الدنيا في شيئين: المال والأولاد فقال: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا)، فأما الأموال فلا يتمارى اثنان في أهمية حفظها في مكان أمين والسهر على صيانتها واستثمارها، وأما البنون فقد عشنا حتى رأينا من يزهد في حفظهم وتربيتهم!

إن إلقاء نظرة على الأحكام الشرعية الخاصة بالمرأة من المنظور العلوي (منظور الطائر) ليوقع في خَلَد المتفكر إدراكا واضحا للدور العظيم الذي يراد منها التركيز عليه، إن إعفاءها من واجب النفقة الأسرية وما يستلزمه من تكسب وإناطة ذلك بالرجل، وإعفاءها من الإلزام بصلاة الجماعة والقتال في الحروب وغير ذلك من الأمور التي تستلزم خروجها من البيت إضافة إلى الإرشاد القرآني الكريم (وقرن في بيوتكن) ليشير إلى مقصد واضح يراد لها أن لا تنشغل عنه، وتأمل أيها المتفكر في السببين اللذين علّل النبي صلى الله عليه وسلم بهما بشارته لصالحات قريش بخيريتهن حين قال في الحديث المتفق على صحته: “خَيْرُ نِساءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ صالِحُ نِساءِ قُرَيْشٍ، أحْناهُ على ولَدٍ في صِغَرِهِ، وأَرْعاهُ على زَوْجٍ في ذاتِ يَدِهِ“، وقارن بين هذين المعيارين والمعايير التي صارت رائجة هذا العصر.

هذا وليس الاهتمام بدور المرأة في بيتها شرعا خاصا بالإسلام، بل إنه لم يزل محل اتفاق بين الحضارات الإنسانية من فجر التاريخ، حتى إنه قد ورد في مدونة جوستنيان للقانون الروماني- والتي تعد من أقدم المدونات القانونية في التاريخ المكتوب- النص القانوني التالي: (المرأة مهيأة بالفطرة للعناية بأمور البيت، والرجل للأعمال العامة والخارجية)، وذلك قبل أن نصل إلى هذا الزمان الذي انتكس فيه كثير من فطر البشر ومفاهيمهم.

ولا يعني هذا الإنكار المطلق لحاجة المجتمع أو بعض النساء إلى العمل خارج المنزل ما دام ذلك في إطار الشرع، إنما الإنكار كل الإنكار في قلب الأصول بحيث يصير هذا هو المطلوب من كل امرأة، وبحيث يصير هذا هو معيار نجاحها في المجتمع، والحمد لله رب العالمين.

عفوا، نسيت ملحوظة: كوكب كريبتون هو الكوكب الذي جاءنا منه سوبر مان.


16 رأيا حول “زوجة من كريبتون

  1. كلام مثالي جدًا عن المرأة ومبالغ فيه
    يجعل الرجال يؤملون أن هناك زوجة مثالية
    أنت نفسك قلت أنها من الكريبتون أي في الخيال مثل هذه..
    لن تتزوج أيها الرجل امرأة ستطبخ كل الوجبات لك وكل يوم وتقوم بدورها على أكمل وجه كل يوم
    الواقع يشهد أن كثير من الرجال يعاونون زوجاتهم في المنزل وفي تربية الأبناء
    بل وكثير منهم يحضر الطعام من الخارج
    بل وكثير منهم يحضر لها الخادمة
    والكمال لله
    والحقيقة أن المرأة ضلع أعوج
    إذا أراد الرجل أن يقيمها ويريدها المرأة المثالية التي وصفتها كسرها
    واعذرني على مروري هذا القاسي
    ولكن لئلا يعيش الرجال في الأحلام ويتصورون وجود كوكب اسمه كريبتون يجيء منه زوجات سوبرمانات

    إعجاب

    1. أرحب بمرورك يا a، سواء كان قاسيا أو لينا!، أظننا لا نختلف إلى حد كبير، أنا وصفت المرأة في أوج تألقها وعطاءها، وأردت تذكيرها ببعض نقاط قوتها وعظمتها، ولم أقصد كل (الكليات) المكررة في تعليقكم، ونفس المرأة التي وصفتها في مقالي قد تكون عصبية جدا، وقد تكون مزاجية، وقد تكون غير متعلمة…إلخ و “لا يفرك مؤمن مؤمنة”، أما التعاون في الأعباء اليومية فهو سنة نبوية، حيث كان عليه الصلاة والسلام في مهنة أهله، الخلاصة: أعتقد أني كنت أتكلم من زاوية وأنت من زاوية أخرى، وأشكرك على التعليق.

      إعجاب

  2. لا احد منا كامل..
    لكن هناك اناس حساسون لطفاء يتتبعون المحاسن ويرونها بما الشكر فتكبر المحاسن وتخجل العاقلة من تقصيرها فتزيد..
    العديد من البشر يستخدم اسلوب النقد او بالأصح الاستهزاء والاستنقاص فيروي نسويات حانقات يفتن نساءا محايدات، لكن تشكل عليهن ضغط النسويات والواقع الذي يتبع كل ناعق، وزوج متبلد كسول عاطفيا لم يفكر في شكر البشر، بل ربما يتعالى بعضهم عن شكر والديه فماذا نريد منه ان نزع الله الرحمة من قلبه..
    وصدق سبحانه اذ قال (وقليل من عبادي الشكور)

    Liked by 2 people

  3. اختلف معك سيدي المتفكر في عدم كتابة ملاحظة ( ممنوع لغير أولي الألباب الاطلاع ) ، فكرة رائدة، وأسلوب ممتع ، وحقيقة هذه المرأة الطبيعية التي تعيش مع الرجل الطبيعي في ظل مراعاة كلا الطرفين لحقوقهما، اشكر لك جهدك وفكرك وأتطلع للمزيد، دمت بخير أيها المتفكر الجميل

    Liked by 1 person

  4. موضوع جميل يذكرنا بأهميه وجود المرأة في المنزل سواءً كانت امًا او اختًا او زوجة فهي مهمة في كل الاحوال ، فأنا على الرغم من ان امي تغضب علينا في بعض الاحيان الا انها عندما تمرض الوم نفسي في كل مره انزعجت فيها من غضبها واتمنى ان اعطيها من صحتي فتعود وتغضب علينا 😂 صحيح ان الامر مضحك نوعًا ما الا انني لا احتمل رؤيتها تتعب فاذا تعبت تعبنا كلنا لتعبها وتألمنا كاننا نحن من مرض وليس هيَ ، فعلا موضوع رائع يستحق النشر والمرور على كل شخص ذو فكرٍ سوِيّ لان بعض التعليقات فيها شيءٌ من التعجب لطريقة تفكير مدونيها عافانا الله واياهم ، وفي الختام الام هيَ شمعة المنزل اذا انطفأت حلّ الظلام في المنزل وان اتت اخرى لتحل مكانها فإن اضاءتها لن تكون مثلها ابدًا ، حفظ الله امهاتنا ورحم الله من توفى منهن 💕

    Liked by 1 person

  5. جزاك الله خيرا على هذه التدوينة التي أعتبرها من أجمل التدوينات التي قرأتها للمتفكر،،،،،،
    للأسف دائما ما أقرأ في بعض مواقع التواصل الاجتماعي أن هذه الأم المثالية توصف بأنها متخلفة وأنها خلاف الإصل!!
    ولكن من أين أتت هذه الثقافة الغريبة؟ أنا أعتقد أنها أتتنا من الغرب، ونرى نتاج ذلك عند النظر إلى وضعهم الأسري المتفكك والهرم العمري المرتفع فأصبح يغلب على مجمتعهم كبار السن وإنخفاض كبير في معدلات الشباب،،،،
    فعلينا أن نعلم أن هذه المشكلة لها أبعاد عميقة ينبغي علينا جميعاً الإنتباه لها،،،،
    وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    Liked by 2 people

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s