(س) لا يستلزم نفي (ص)

الحمد لله، أما بعد:

فلا أدري هل طاف بخاطر نيوتن وهو يسبك ثالث قوانينه في الميكانيكا أنه سيأتي أحد في يوم من الأيام ليسبغ ذات القانون على تفسير تفاعلات البشر فيما بينهم!، لقد كنت- ولا زلت- أعتقد أن كثيرا من الناس، بل وحتى الشعوب والدول، يحاكون في ردود أفعالهم- بغير شعور غالباً- ذلكم القانون الشهير: (لكل فعل ردة فعل مساوية له في المقدار ومعاكسة له في الاتجاه)، فتجد فلانا من الناس- على سبيل المثال- قد تعرَّض وعانى من رقابة وتشديد مبالغ فيهما من والديه في فترة مراهقته، فيندفع عند صيرورته أباً إلى إتاحة هامش كبير ومبالغ فيه من الحرية لأولاده، وقد يحصل العكس، فإذا كان الحبل متروكا له على الغارب في فترة مراهقته وعانى من هذا الانفلات وذاق الأمرّين من ضعفه ووحدته أمام طوفان المغريات دون إحساس بأم وأب يقفان إلى جواره، فإنه يندفع عند صيرورته أبا إلى اتخاذ سياسة صارمة وخانقة في الرقابة على أبناءه.

هذا الموضع من أفضل المواضع الاستراتيجية التي يكمن فيها الشيطان لينقض منها على الإنسان مستغلاً وقوعه في أسر ماض مزعج أو لحظة حاضرة.

ولذلك كنت أقول من قبل لبعض أصدقائي: إن الوسطية ليست مطلبا سهلا في جميع مواضعها، بل تحتاج إلى قدر كبير- بعد توفيق الله- من الفقه في الشرع والحكمة والنضج النفسي والعقلي حتى يتوصل الإنسان إليها، وأعني بذلك الوسطية الشرعية التي تقتضي إعطاء كل طرف حقه بدون إفراط ولا تفريط، أما الطرح السطحي للوسطية الذي يحصرها في عدم التطرف الديني أو بالوقوف المتوسط بين طرفين فهو طرح بائس بلا شك.

فيما يلي بعض الأمثلة التي تفكرت فيها من (وحي بيئتي وتجاربي)، وأقول من وحي بيئتي وتجاربي وأركز عليها لأن هذه الأمثلة قد يقرأها البعض فلا يشعر بإزاءها بأي تفاعل لأنه لم ير في نفسه ولا في بيئته أي انعكاس لها، وقد يقرأها البعض فيجد فيها ما يمسك بتلابيب عقله وفؤاده، وإذاً، فإلى هذه الأمثلة:

1- أهمية الصدق والصراحة في العلاقات لا تنفي أهمية اختيار الأسلوب الحسن والمناسب، فإن اختيار الأسلوب الحسن داخل تحت النصوص الشرعية الآمرة بحسن التخلق والمعظمة من شأنه، ولم يكتف القرآن بدعوتنا إلى استعمال الخطاب الحسن، بل قال: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن).

2- أهمية تدبر القرآن لا تستلزم التقليل من أهمية حفظه وتلاوته، فلقد وصف الله كتابه بأنه (آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) وهذا يتضمن حفظه، والتلاوة في ذاتها قربة جليلة القدر (إن الذين يتلون كتاب الله… يرجون تجارة لن تبور)، ثم إن قدرة الحافظ على تدبر القرآن أضعاف قدرة المحروم من الحفظ، لأن الأول بإمكانه استحضاره والتأمل فيه آناء الليل وأطراف النهار، ناهيك عن وجود كثير من الأوقات التي لا يستطيع فيها المؤمن أن يتدبر، فالقراءة المجردة خير له حينذاك، وكأن الناس مؤخراً عندما انتبهوا إلى التفريط الكبير في تدبر القرآن توهموا أنهم بين خيارين: إما الإقبال على حفظه، وإما الإقبال على تدبره، وهذا غريب عجيب.

3- أهمية التعايش الإسلامي والتعامل بالحسنى مع الكفار لا تنفي عدواتنا الدينية لهم، فالذي شرع لنا الإحسان إلى المسالمين منهم هو الذي نهى عن اتخاذهم أولياء ( لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء)،وهو الذي حصر الولاية في عباده المؤمنين فقال (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويوتون الزكاة )، وهو الذي يقول (فإن الله عدو للكافرين)، والذي يتوهم عدم اجتماع الإحسان إليهم مع معاداتهم وبغضهم في الله فقد أوتي من جهل بالشرع أو ضيق في الأفق والعقل.

4- أهمية الميل النفسي في العلاقة مع شريك العمر لا تستلزم نفي أهمية العوامل الأخرى كالتقارب الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، إن التوافق النفسي وحده قد لا يصمد أمام أمواج الحياة الجارفة، أما ما يُحكى عن صمود بعض الوقائع، فهو ما نسميه بلغة الفقهاء: (وقائع أعيان)، أي أنها أشياء اسثتنائية ولا يقاس عليها، ولعل هذا من إحدى الحكم الجليلة في اشتراط موافقة طرف ثالث عند إرادة الزواج (ولي المرأة) يكون بمنأى عن ضغط الميول النفسية وقادر في نفس الوقت على التأكد من استيفاء بقية العوامل الأخرى.

5- أهمية العقل لا تستلزم التقليل من أهمية العاطفة، فالعاطفة جزء أساس من أعمال القلوب كالخوف والحب والرجاء التي ورد في فضلها ثواب عظيم في الكتاب والسنة، وكم من العواطف كانت سببا وراء إنجازات كبيرة في دنيا البشر (تاج محل)، ولولا العاطفة لما أطاقت الأنثى تحمل أعباء الحمل ورعاية الأطفال، إن الحياة بلا عواطف تشبه اللوحة الجميلة بدون ألوان.

6- أهمية المعدل العالي في الدراسة لا تستلزم نفي أهمية العوامل الأخرى كالخبرات والتجارب، وقد بدأ العديد من كبرى الشركات العالمية في اعتماد معاييرللتوظيف تراعي هذه العوامل الأخرى أكثر مما كانت في السابق.

7- أهمية النفع المتعدي لا تقلل من أهمية العمل اللازم، فالقرآن حافل بالثناء على الأنبياء في عباداتهم المحضة (وكانوا لنا عابدين)، وأكثر عبادة- على الإطلاق- ورد مديحها في الكتاب والسنة هي الصلاة والذكر عموما، وكثير من الخلل الحاصل اليوم عند المنتسبين للدعوة والعلم سببه الأساس ضعف العلاقة بالله والافتقار إليه والقيام بين يديه، وقد قالها أحد العلماء: (لولا اللازم لما حصل المتعدي).

8- أهمية الرفق واللين في الدعوة لا تستلزم التقليل من أهمية الشدة في مواضعها، فأحيانا يكون الإغلاظ هو المتعين شرعا، وأحيانا يكون من الخيارات المطروحة التي لا تثريب على من اتخذها، وقد أغلظ الله على بعض المدعوين في القرآن، (تبت يدا أبي لهب وتب)، (عتل بعد ذلك زنيم)، وفي السنة الشريفة أنه عليه الصلاة والسلام رأى خاتمًا مِن ذهبٍ في يدِ رجلٍ فنزَعهُ وطرحَهُ وقال: يعمِدُ أحدُكم إلى جمرةٍ من نارٍ فيجعَلُها في يدِهِ، فقيلَ للرَّجُلِ بعدما ذهبَ رسولُ اللهِ خذ خاتمَك انتَفِع بهِ قالَ: لا واللهِ لا آخذُه وقد طَرحَهُ رسولُ اللهِ، أحيانا أشعر أن الناس لا يعرفون من الدين إلا حديث الأعرابي الذي بال في المسجد!.

9- أهمية تخصص علمي معين لا تستلزم التقليل من أهمية التخصصات الأخرى، فلكل دوره في بناء المجتمع ونفع الناس، ولا تقوم الدنيا إلا بتضافر هذه التخصصات جميعا، وليس المهم عندي هو اسم تخصصك، بل المهم عندي هو ما ستقدمه أنت لهذا التخصص وما تضيفه إليه، وإلا صار اسم التخصص مجرد زينة يتزين بها المرء في المجالس أو يتوظف بها وحسب!

10- أهمية الباطن لا تستلزم انتفاء أهمية الظاهر، بل أَمْر الله ورسوله معظّمان وعلى العين والرأس سواء تعلقا بالباطن أم بالظاهر، تخيّلوا رجلا قذِر الملابس، عطِن الرائحة، يمشي كأنه جثة متعفنة، فإذا قلنا له اعتن بمظهرك قال: أهم شيء طهارة القلب ونظافته من الحقد والأدناس!

11- أهمية التخطيط المسبق-كأصل- والاحتياط لكل خطوة لا تستلزم نفي أهمية الارتجال و(الدرعمة) في بعض الحالات، فليس كل الفرص تنتظر، وأحيانا تكون تجربة الشيء ومن ثم الخروج عليه بحكم أنفع وأحفظ للوقت من التخطيط المسبق ودراسة جدواه من الناحية النظرية.

12- أهمية الفضل لا يستلزم انتفاء أهمية العدل في مواضعه، وقد رتب الله الأجر على العفو الذي يقترن به الإصلاح (فمن عفا وأصلح فأجره على الله)، فأما العفو الذي يترتب عليه إفساد الجاني أو جرأة غيره فالأفضل فيه العدل وإنزال العقوبة، ناهيك عن بعض الجرائم التي حرم الله عز وجل مجرد التعاطف مع مرتكبيها-فضلا عن العفو عنهم- وهي جرائم الحدود كالزنا، فقال: (ولا تأخذكم بها رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله).

هذه بعض التفكرات في (س) و(ص) التي عنّت لي، وأنتم يا أصدقاء متفكرهل عندكم أمثلة أخرى؟


اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s