الحمد لله رب العالمين، أما بعد:
فبالرغم من أن لدى أهل الفقه والحقوق نظريةً كاملةً وبُنياناً معرفياً قائماً يُعرف بنظرية التعسف في استخدام الحق، إلا أن معنى هذه النظرية وأصلها لا يزال غائبا عن أذهان معظم الناس، ربما لعدم حاجة أكثرهم إليها، لأن صاحب العقل السوي والفطرة الباقية على أصلها ليس بحاجة إليها- ناهيك عن أن يكون ذا ديانة تردعه-، ومعنى هذه النظرية باختصار أن يقرر الشرع أو القانون لأحد من الناس حقا من الحقوق، فيقوم باستخدام هذا الحق بشكل ظالم وتعسفي، كأن يأتي مالك الدار فيصمم داره بطريقة تسمح له بالاطلاع على عورات جاره، فعلى الرغم من أنه قد تصرف في ملكيته ولم يتعد إلى ملك غيره -وحق التصرف في الملكية حق أصيل للبشر- إلا أنه استخدم حقه هنا بطريقة غير مشروعة تؤدي للإضرار بحق الغير، فيحرم عليه ديانة ويُمنع منه قضاءً، وقد أشار القرآن العظيم إلى حرمة التعسف في استعمال الحق -منذ ألف وأربعمائة سنة قبل القانون الوضعي- عندما نهى الزوج الذي طلّق زوجته طلاقا رجعيا عن التعسف في استعمال حقه في الرجعة لكي يطيل عليها العذاب النفسي، فقال في شأن المطلقة الرجعية: ( فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) وكانت الآيات قد نزلت في رجل كلما أوشكت مطلقته أن تستوفي العدة قام بإرجاعها! ثم يعود فيطلقها فتبدأ في احتساب العدة من جديد! حتى مضى عليها 9 أشهر.
هذا ومن أفحش صور التعسف في استعمال الحق التي رأيتها تعسف الوالدين في استخدام حقهما على الأبناء الذين هم أولى الناس برحمتهم وحنانهم! كأن يأتي الأب الذي أوجبت له الشريعة حقا عظيما من البر، فيأمر الابن أن ينزل من الدرج، ثم يصعد، ثم ينزل، ثم يصعد، وهكذا بدون أي حكمة أو مصلحة حقيقية تعود له أو للابن، بل تشفيا من الابن و (تفضية حرّة) أو إغاظة لمطلقته أو غير ذلك من الأغراض غير المشروعة في الإسلام، فهذا الطريقة من الاستخدام لحق البر غير مشروعة، ويأثم عليها الأب، والله حسيبه يوم يقوم الأشهاد.
أما الأدهى والأمرُّ من ذلك فهو أن يتجاوز الأمر موضوع السفه في استخدام هذا الحق ليصل إلى ظلم الأبناء والتعدي عليهم وانتهاك حقوقهم باسم الشرع، فلا عجب بعد ذلك أن نجد من بناتنا من فتنت ببريق النسوية أو انجرفت لشبكات الانحراف، أو نجد من أبناءنا من سقط في براثن المخدرات أوارتد عن الدين بسبب مشاكل عائلية، لأنه يظن أن هذا الدين العظيم هو الذي سوغ لهذا الأب أن يلتهمه ويطأ على كرامته باسم بر الوالدين، ألا قبح الله الجهل بالدين!، والأدهى من ذلك أن يذهب ليستغيث بمن ينقذه من التعذيب والفتك الحاصل له فلا يجد من المجتمع إلا التخاذل والتبكيت وباسم بر الوالدين أيضا، وكأن العلاقة بين الوالدين والأبناء باب قد نُسخِت منه أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! فلا يقترب منه أحد حفظا لخصوصية البيت بزعمهم أو غير ذلك من المسوغات التي يبررون بها تخاذلهم عن نصرة هؤلاء المظاليم، وما أكثر التأول في هذا الزمان! ولست أتكلم هنا عن القدر المعتاد من الضرر الذي يُؤمر فيه الابن بالصبر واحتساب الأجر، وإنما أتكلم عن قدر فاحش من الضرر يترتب عليه قتل الأبناء معنويا وتحطيمهم فيما تبقى من حياتهم أو إلحاق عاهات بهم…إلخ، العجيب أن عامة الناس يستوعبون أن المشقة الشديدة تُسقِط أركانَ الصلاة والصيام والحج وكل تكاليف الإٍسلام، أما الوالدان فهم يصرون على أمر الأبناء بتحمل ظلمهم مهما بلغ!
أيها المجتمع الفاضل، إن في البيوت أبناء لا يحصلون على الحقوق التي قررتها الشريعة (للحيوان)!
أفتكون الهرة الحبيسة التي أدخل الله حابستها جهنم لأجل حبسها إياها أكرم على الله من بنت حبسها وليّها وأوصد عليها الأقفال! أوَ يكون الحمار الموسوم على وجهه بكيّة نار لَعَنَ النبي صلى الله عليه وسلم لأجلها صاحبه أكرم على الله من الابن الذي وسمه والده!
لقد غضب الحبيب عليه الصلاة والسلام ووبّخ أحد فتيان الأنصار عندما شكى إليه جمله أنه يجيعه ويتعبه! بل حتى الذبيحة التي حل لنا لحمها والتي ستودع الحياة عما قريب قد نهت الشريعة عن تعذيبها نفسيا برؤيةِ رفيقاتها يُسقن إلى المذبح أو إطالةِ أمد معاناتها بسبب عدم شحذ السكين بشكل حسن!
ولقد عرفت فتاة قام أبوها بإلقامها ملعقة أوقد عليها النار حتى تجمّرت- عندما كانت في التاسعة من عمرها- بسبب تكرر كذبها الطفولي عليه! طبعا حصل لها ورم في لسانها لاحقا واضطررت لإجراء عملية جراحية في لسانها لمعالجة الالتهابات والمصائب التي ترتبت على ذلك، ولعل من عرف قصتها آنذاك وتخاذل عن نصرتها كان يسكت ثم يتمتم بخشوع عن فضيلة بر الوالدين…
أيها المجتمع الفاضل، إن في البيوت أبناء لا يحصلون على الحقوق التي قررتها الشريعة (للعبد والرقيق)!
فعلى الرغم من أن العبد محبوس على منافع سيده بشكل كامل لدرجة عدم وجوب الحج وصلاة الجمعة وغيرها من الأحكام عليه، بل قد خففت عنه مجموعة من التكاليف الشرعية مراعاة لحقوق سيده، إلا أن الشريعة حفظت عليه كرامته، يقول الراوي: “كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي، فَسَمِعْتُ مِن خَلْفِي صَوْتًا: اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عليه، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هو رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، هو حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَقالَ: أَما لو لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ، أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ”، أفترى الحبيب عليه الصلاة والسلام لو رأى بعض التعذيب الذي فعله شذاذ الأولياء اليوم ماذا كان سيفعل!
لقد حرمت الشريعة التفريق بين الوالدة وولدها في بيع السبي وتوعدت البائع بجزاء شنيع ألا وهو التفرقة بينه وبين أحبته يوم القيامة واليوم نجد من الآباء من يحرم أطفاله من رؤية أمهم المطلقة أو العكس نكايةً وتصفيةً لأحقاد الصدور، روى أبو أيوب الأنصاري: كان ﷺ يَمنَعُ التفريقَ في السَّبْيِ بين الوالدةِ وولَدِها، ويقولُ: مَن فرَّق بين والدةٍ وولَدِها، فرَّق اللهُ بينه وبين أحِبَّتِهِ يومَ القيامةِ”. ألا ما أعظم العقوبة المتجانسة مع شناعة الذنب، إنها شرعة العدل يا سادة!
أيها المجتمع الفاضل، إن في البيوت أبناء لا يحصلون على الحقوق التي قررتها الشريعة للكافر الذمي والمعاهد! والأدهى أن يسوّغ ذلك بشرع الله!
فمن تلك الحقوق ما رواه هشام بن حكيم بن حزام حين مرَّ على أناس من الأنباط- وهم فلاحو العجم كما بيّن النووي-بالشام، قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حُبِسوا في الجزية، فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا”، ولقد رأينا من يرمي أطفاله في فناء المنزل بالشهور ويهجرهم هجرانا تاما باسم التأديب!
هذا وليس الممنوع التعرض للذمي الكافر بسوء حال حضوره فقط بل منعت الشريعة من انتقاصه حال غيبته، وذلك لما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ألا من ظلم معاهِدا، أو انتقصه، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة”.
اللهم اجعل نبينا حجيجا وخصما لمن ظلم أولاده وانتقصهم وكلفهم فوق طاقتهم!
إذا كانت هذه حقوق فئة من أعداء الله، الذين امتلأ القرآن والسنة بذمهم وإقامة الحجة عليهم وذكر شناعة الدار التي أعدت لهم في الآخرة، فكيف بطفل أو طفلة آمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا! أو يكون هؤلاء الكفار أكرم على شرع الله من هؤلاء الضَعَفَة!
إننا أيها السادة ننكر على من حرموا أولادهم حقوق الحيوان والرقيق والذمي في الإسلام، ولما نطالبهم بعدُ بحقوق المسلم على المسلم!
لقد ركزت الشريعة على نصوص بر الوالدين لا سيما في حال الكبر لأسباب منها: حاجة المؤمن إلى تذكيره بذلك والإلحاح عليه، وذلك لقوة الدواعي الصارفة له عن برهما! وذلك لأن الإنسان حين يشب ويكبر وينشغل بوظيفته وأعباء حياته في مقابل كهولة والديه وضعفهما وضيق خُلُقهما وفقدانهما لسلطانهما عليه؛ فإنه قمين بالغفلة عنهما، فتأتي الشريعة لتذكيره بملازمتهما، في حين لم تركز النصوص الشرعية بنفس القدر على أمره بالرعاية لأولاده أو على نهيه عن تعذيب أولاده مثلاً إحالةً منها على فطرة الأبوة والأمومة وقوة دواعيه إلى ذلك، وذلك كما أن الشريعة لم تركز مثلا على النهي عن شرب الدم أو أكل النجاسات ونحوها مع أنها محرمة، وذلك اكتفاء بالطبيعة البشرية النافرة بفطرتها عن مواقعة هذا النوع الحقير من المحرمات، وكما لا نجد في النصوص تركيزا كبيرا على أمر المكلف بالأكل والشرب والاكتساء مع أنها مطلوبة شرعا، وذلك لأنها رُكِّبت في فطرته وشهوته فهو ساع لها ولا بد، وهذه قاعدة بديعة عُني عبقري الإسلام الشاطبي بتأصيلها وبسطها في موافقاته.
أيها الأولياء، إن أولادكم مسلمون داخلون في عموم مئات النصوص الشرعية التي قررت الحقوق للمسلمين، إنهم داخلون في قول الحبيب عليه الصلاة والسلام (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة… )، إنهم داخلون تحت عموم (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، فالذي يسب أولاده آناء الليل وأطراف النهار وعلى أتفه الأسباب هو والغ في الفسق حتى أطراف أذنيه! لأن أعراضهم محرمة عليه.

ومما يثير السخرية أن تجد كثيرا من الناس تتطاول أعناقهم إلى المنكرات البعيدة عنهم كالواقعة في مناطق الحروب أو الخارجة عن سلطانهم فيتلمظون غيظا منها ويضربون كفا على كف حوقلة منهم على سوء أحوال المسلمين ثم تجده لا يحرك ساكنا على أنواع من الظلم المستشرية في المجتمع، أو يكتفي إذا أتته استغاثة من هاهنا أو هناك بأمر الشاكي بالصبر دونما التفات إلى إيقاف هذا الظلم أو التعاون على ذلك على الأقل، حتى ليظن الناظر أن هذا هو موقف الشريعة من ظلم الآباء في المجتمع المسلم.
لقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم انحرافات من الآباء أقل من المذكور في الأعلى بكثير، ومع ذلك كان حازما صارما في مواجهتها، فمن ذلك أنه رماها قوية صريحة في وجه ذلك الزعيم القبلي الذي ذكر أن له عشرة من الولد ما قبّل منهم أحدا أبداً فقال له: ” أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك” مع ما عُرف عنه عليه الصلاة والسلام من اللطف ولين الخطاب لا سيما مع فئة المؤلفة قلوبهم من زعماء القبائل ونحوهم، أي أنه (هزَّأه أمام كل الحاضرين)، وهذا نوع من التعزير عند الفقهاء، ومن ذلك أنه أبطل نكاح الجارية التي زوَّجها أبوها رغما عنها، فقد ورد في السنة أن فتاة جاءت إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقالتْ: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، قال: فجَعَل الأمر إليها، فقالتْ: قد أجَزْتُ ما صنع أبي، ولكن أردتُ أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء! فهذه صحابية حقوقية- إن صح التعبير-، أرادت فقط أن يَعلم الناس رفض الشريعة ورفض النبي صلى الله عليه وسلم لتعدي الآباء على أولادهم باسم الشرع! ولو كان الأمر كما يفهمه العوام لقيل لها: اصبري عليه فإنه أبوك و…إلخ، لكنها شِرْعة الحقوق يا أيها المتفكرون.
وقد وقفت على كلام صادم ومفاجيء لفقيه العصر ابن عثيمين رحمه الله يتذمر فيه من جبن الناس في مواجهة هذه الانحرافات، حيث يقول- بعد أن قرر وجوب نقل ولاية النكاح من الأب إذا عضل ابنته: (ولكن المشكلة أن الناس لا يجرؤون على هذه المسألة، فتجد الأب يمتنع من تزويج ابنته؛ لأن الخاطب لم يعطه ما يرضيه من المهر، فهو عاضل، فلو قلنا لأخيها أو لعمها: زوجها، قال: لا أقدر أن أتعدى الأب، ففي هذه الحال إذا أبى الأقرب، نذهب إلى الأبعد منه، فإذا أبى كل العصبة، وقالوا: ما نقدر، نخشى أن تكون فتنة، فيجب على القاضي أن يزوجها، ولو أن الناس استعملوا هذا ـ وهو شرعي ليس منكراً ـ لانكفَّ كثير من الشر من هؤلاء الآباء، الذين يعضلون ويبيعون بناتهم بيعاً صريحاً. فالحاصل: أن مشكلتنا أنه لا أحد من الأقارب يجرؤ أن يزوجها، وأبوها أو أخوها موجود، وهذا غلط، ويعتبر ظلماً لهذه المسكينة، وفي هذه الحال لو أن أباها أبى، وكل العصبة، وكذلك القاضي صار جباناً، فحينئذٍ نقول بالقول الثاني، وهو مذهب أبي حنيفة ـ وهو مذهب قائم من مذاهب المسلمين ـ تزوِّج نفسها، وينتهي الإشكال، مع أن هذا سيكون أندر من الكبريت الأحمر، ولا يمكن، لكن لو أنه فعل لانكف الناس عن هذا التحكم في بناتهم…
فلهذا يجب على طلبة العلم أن يحذروا من عضل الأولياء، وأن يبينوا للناس أن العاضل لا كرامة له، بل قال العلماء: إذا تكرر عضله فإنه يصبح فاسقاً لا تقبل شهادته، ولا ولايته، ولا أي عمل تشترط فيه العدالة، فإن ذهب طلبة العلم لنشر مثل هذه المعلومات بين الناس، فإن الناس قد يستنكرونها لأول مرة، ويقول الأخ: كيف أزوج وأبي موجود؟! لكن إذا تكرر ذلك ثم صار هناك أخ شجاع وزوَّج مع وجود أبيه الذي عضل، تتابع الناس، فالناس يحتاجون إلى فتح الباب فقط، وإلا فالمسألة متأزمة، يتقدم للمرأة عدة رجال يبلغون إلى ثلاثين رجلاً، ومع ذلك يمنع لسبب شخصي بينه وبين الخاطب، أو حسداً لابنته، كيف يخطبها مثل هذا الرجل الفاضل؟! أو تكون البنت موظفة يأخذ راتبها، وإذا قالت: يا أبي أعطني راتبي، قال: أنت ومالكِ لأبيك!!) انتهى.
وأختم التدوينة بنقلين عن شيخ الإسلام، سيفهمهما من يحتاج إليهما، حيث قال في موضع: (المؤمن يعرف المعروف وينكر المنكر، ولا يمنعه من ذلك موافقة بعض المنافقين له ظاهرا في الأمر بذلك)، ويقول في موضع آخر: (الذي عليه أئمة الإسلام أن ما كان مشروعا لم يترك لمجرد فعل أهل البدع).
أخيرا: ابنتي المعذبة، إذا لم تجدي في محيطك إلا ذكورا- من الناحية البيولوجية فقط- ولم تجدي رجلا تلوذين به، فلا حل إلا اللجوء للجهات المختصة ممثلة في مركز بلاغات العنف الأسري (حالات العنف الجسدي، النفسي، الجنسي، اللفظي، الإهمال) عبر الرقم المجاني 1919، والذي يلتزم أيضا بالحفاظ على سرية المبلغ لو كان طرفا خارجيا، والله المستعان.