
الحمد لله، أما بعد:
فما أنا من طلاب الشيخ البررة به للأسف، ولعله إذا بلغه نبأ كتابتي هذه التدوينة في برزخه- وقد توفي قبل أيام- أن يستغرب ويستغرق هنيهة حتى يتذكر من هو عبدالله بن ياسين بخاري- والله وحده يعلم كيف يكون البرزخ-، غير أني قلت في نفسي أنني إذ لم أبرّه حال حياته فلا أقل من محاولةٍ بعد مماته، إن من ميزات التعامل مع الله أن باب الاستدراك والاتصال به مفتوح في أي وقت سبحانه، ولعلي قبل أن أحكي لكم لحظة الإسار أن أصف الشيخ لمن لا يعرفه.
كان شيخنا ياسين الخطيب- رحمه الله- كتلةً من الوضاءة والسكينة تمشي على قدمين، قد اجتمع فيه البياض الحسي والمعنوي، فهو يطأ في بياض ويجلس في بياض، وكنا إذا تحلقنا حوله في قاعة المحاضرات لكأننا أحفاد اجتمعوا حول جدهم الحنون ليغرف لهم من علمه وأخلاقه وخبراته، لم تكن علاقتنا به علاقة دكتور جامعي بطلابه على الإطلاق، بل علاقة أبوة وبنوة، وهذا أمر يُجمِع عليه كل من درس على الشيخ، أنَّ حب الخير والرحمة بالناس والنصيحة للخلق كان هواءً يتنفسه ويحيا به- نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحدا-، صفة الرحمة هذه ستكون خليطا مدهشا عندما أنبئكم بالصفة الثانية للشيخ ، ألا وهي جِدُّه الشديد في خاصة نفسه واشتعاله نشاطا، إن هذا الرجل محدودب الظهر لم تزل همته غضة طرية كأنه في مقتبل العمر، وهذا يندر أن يجتمع مع الصفة الأولى- صفة الرفق واللين- في شخص واحد، فإن عادة الإنسان الجاد المكافح أن يضيق ذرعا بكثير ممن حوله بسبب وجود فجوة بين واقعهم وواقعه، ولذا يميل هذا الصنف عادة إلى العزلة والعيش مع النفس، ولقد رأينا من دكاترة الجامعة الجادين والنشطين في مجالهم من يجاهد نفسه عند مخالطة الطلاب وذلك لما يتأذى به من شيوع الكسل وعدم الهمة في التحصيل، أما ياسين الخطيب رحمه الله، فلم يكن من هؤلاء القوم.
على أن كل ما سبق من جليل الصفات لم يكن هو ما أسرني فيه، وإنما أسرني منه موقف عابر- بالنسبة له- لكنه لم يكن عابراً بالنسبة لي!، ذلكم أني درست- فيما درست- عند شيخنا مادة (قاعة بحث) وهي المادة التي نتعلم فيها مناهج البحث في الفقه ومذاهبه وتاريخه وأدواته ومصادره…إلخ، وفي أثناء إحدى المحاضرات تطرق الشيخ رحمه الله بشكل عَرَضي لمسألة معينة يرى فيها مشروعية الفعل المذكور، وكنت أعتقد في قرارة نفسي أن الفعل المذكور يعد بدعة بلا شك، ولمّا كنت معارضاً له في رأيه تماما فقد قررت أن أختار بحث هذه المسألة بعينها وتقديمها إليه! أقبلت على بحثي بكل حماسة، وكان أول بحث لي في حياتي على الإطلاق، وكونه أول بحث فهذا يشبه أن تأتي امرأة وتقدم طبقا قائلة إنه أول طبخة لها، المهم أن نهاية الفصل قد أزفت والبحث لم يكتمل، فقررت تقديمه بالشكل الذي انتهى إليه، وبالثغرات التي احتواها لا سيما أني كنت أكره بعض الالتزامات الأكاديمية في كتابة البحوث ولا أقتنع بها، المهم أني قدمته وأعطاني عليه (أ+) وانتهى الفصل الدراسي وانتهت (السالفة) بالنسبة لي.
في الفصل الدراسي التالي جاءنا الشيخ في مادة أخرى( نظرية الملكية أو نظرية الضمان)، وكنا نفس الطلاب الذين درسوا عنده (قاعة بحث) تقريبا، لأن طلاب قسم القضاء وقتها كانوا شعبة واحدة فقط، دخلت القاعة وجلست في الموضع الذي أحب الجلوس فيه دوما، وبدأت المحاضرة، وإذ بالشيخ فجأة يحدِّث زملائي عن بحثي الذي قدمته في الفصل الماضي، فيعرضه عرضا موجزا على نفس الطلاب الذين قرر أمامهم رأيه السابق المخالف لرأيي، ثم يثني على عملي في البحث ويقدِّره ويحترمه، ثم يعود إلى مواضيع المادة الجديدة!، فعل ذلك بكل عفوية وبساطة كأنه يمارس فعلا روتينيا!، في هذه اللحظة بَذَرَ الرجل بِذرةً في أعماااااااق روحي لم أشعر بها وقتها، هذه البذرة تم سقيها لاحقا بعشرات من الأحداث والمواقف التي ستمر بي في السنوات التالية والتي اكتشفت فيها مدى صعوبة احترام الرأي المخالف وإفساح مساحة له لا سيما في بعض الجوانب الحساسة كمسألتنا!، فضلا عن أن تتولى أنت نفسك عرض رأي مخالفك للجمهور بكل بساطة وأريحية، لم يكن هذا الموقف الأخلاقي الباسق في التعامل مع المخالف سهلا على الرجل إلاّ لأنه قد اعتاده وصار نهجا له، أدركت لاحقا أن هذا الرجل لا ينتمي لكوكبنا، إن الناس يعتبرون آراءهم الشخصية جزءا من كرامتهم واحترامهم لأنفسهم للأسف، لكن هذا رجل قد وطئ حظوظ النفس تحت قدميه وداسها حتى تمزقت شر ممزق!، إن الواحد منا ليجد صعوبة في تقدير رأي قرينه في السن عندما يخالفه، فكيف باحترام الاختلاف مع شاب يصغرك بخمسين عاما! نعم والله إنها لخمسين، فقد كان عمري وقتها قرابة العشرين سنة، وعمر الشيخ قرابة السبعين سنة، وبالنظر في سيرته فقد وجدت أن الرجل سافر للأراضي السعودية لطلب العلم ليس قبل ولادتي! بل قبل أن يتزوج والدي- رحمه الله- بوالدتي، كيف باحترام الاختلاف مع شاب رد عليك في بحث لا يخفى عليك معظم ما أورده فيه من حجج! لا سيما باعتبارك قد أمضيت وقتا طويلا في البيئة السلفية وتعرف أصولها وتأصيلاتها!، حتى عنوان البحث كان فيه على الأرجح شيء من الاستفزاز له- لم أقصده-، حيث كان عنوانه: (القول النهائي في …)، وكل ما سبق هو في البيئة الأكاديمية التي قد تتضخم فيها (الأنا) لا سيما أمام الطلاب!
لقد فعل الشيخ فعلا عابرا منه ولم يعلم بعد ذلك أنه قد أسرني إلى الأبد، وقد يقول الإنسان كلمة أو يفعل فعلا عابرا بالنسبة له، ولا يثمر في نفس الطرف الآخر إلا بعد سنوات! وما أكثر ما ينطبق عليه قول دوستويفكسي: “إنك حين تزرع البذرة…حين تقوم بفعل الخير الذي تقوم به، إنما تهب جزءا من شخصيتك وتأخذ جزءا من شخصية الآخر، فيكون بين وجوديكما تواصل…ثم إن جميع أفكارك وجميع البذور التي زرعتها ولعلك نسيتها سوف تمتد لها في الأرض جذور، وسوف تنمو وتكبر. إن من أخذها عنك سينقلها إلى غيرك…إلخ”.
الآن بعد قرابة 14 سنة على هذا الموقف أقول: لقد نسيت معظم ما في البحث ولكن بقي في ذهني موقفه الرفيق الراقي الرائع محفورا في أعماق ذاكرتي كأنما حصل بالأمس، اللهم بلغ عبدك ياسين أني وعيت الدرس جيداً وانتفعت به، اللهم ارحم عبدك ياسين، فلقد أحذانا مسكا، ولقد ابتعنا منه، ولقد وجدنا منه ريحا طيبة، آمين.
راائع كعادتك
الله يرحمه وعظم الله اجر كل من افتقده
إعجابLiked by 1 person
جميل جداً، بارك الله فيك، كلمات نابعة من قلب صادق.، و هذا يدل على وفائك للشيخ.،
رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.،
كما أتمنى أن تواصل الدعاء له، غفر الله لنا ولكم ولجميع المسلمين
إعجابLiked by 1 person
أحسنتم أحسن الله إليكم وغفر لشيخ الجميع الشيخ ياسين
إعجابLiked by 1 person