الحمد لله، أما بعد:
ففي أعالي سورة البقرة، وتحديدا في آخر صفحتين من الجزء الثاني، تقع قصة ملحمية مثيرة، فيها أحداث كالخيال لكنها حقائق مقطوع بثبوتها، هذه القصة لا ينبغي لأي متدبر يسافر في خلال سورة البقرة أن يمر عبرها دون أن يجعل منها محطة توقف له، لما فيها من جمال آسر، تحكي قصة قوم تطلبوا القيام بأدوار بطولية ضخمة، لكنهم ما كانوا (قد كلامهم)، طبعا لن أستعرضها كاملة، وإنما سأعرض لكم تفكرات منها، وهيا إلى العرض:
1- القتال في سبيل الله لا يكون إلا تحت راية: (ابعث لنا ملكا نقاتلْ في سبيل الله)، والقتال هنا هو جواب الطلب كما هو معلوم من الناحية الإعرابية.
2- معرفة الأنبياء بطبائع أقوامهم وإشفاقهم عليهم: (قال هل عسيتم إن كُتب عليكم القتال ألا تقاتلوا)، فكأن هذا النبي عليه السلام أحس في نفسه بما سيكون في المستقبل!، وقد جاء الإرشاد لنا في السنة بعدم تطلب البلاء لأن الإنسان لا يدري هل يثبت أم ينهزم، “يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا”.
3- الأفضل دينيا ليس بالضرورة هو القائد دنيويا: (قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا) فهؤلاء القوم رغم وجود نبيهم فيهم، إلا أنهم عندما هموا بالقتال في سبيل الله اختار الله لقيادتهم في ذلك شخصا آخر غير هذا النبي، وهذا أصل أصيل عند علماء السياسة الشرعية، وفرعوا عليه فروعا كثيرة، ودونكم هذا النص الذي يقطر متعة لابن تيمية رحمه الله: “فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تعيّن رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة، قُدِّم أنفعهما لتلك الولاية وأقلهما ضررا فيها، فيُقدّم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور فيُقدّم على الضعيف العاجز وإن كان أمينا، كما سُئِل الإمام أحمد بن حنبل عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما فاجر قوي والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يُغزى فقال أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه، وضعفه على المسلمين”.
4- جرت العادة أن من يتكلم كثيرا يعمل قليلا: (ابعث لنا ملكا نقاتل…فلما كتب عليهم القتال تولوا).
5- أصل الملك الثيوقراطي قد وجد في أمم سابقة، والذي يدور معناه حول اختيار الملك من قبل الله: (إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا)، طبعا الغرب يكرهون الثيوقراطية لكثرة الجبابرة الذين حكموهم في القرون الوسطى باسم الآلهة دجلا وكذبا، وعلى أية حال فقد انقطع هذا بانقطاع وحي السماء، وقد انقطع وحي السماء بموت محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.
6- جرت العادة أن يكون الملوك ذوي سعة في المال: (أنى يكون له الملك… ولم يؤت سعة من المال) فقد استشكل هذا الملأ من بني إسرائيل اختيار ملك لا يتصف بهذه الصفة، وهذا يدلك على أثر المال في قوة نفوذ الشخص حتى في الأزمان الغابرة!
7- من الشبهات والإشكالات ما يكون جوابه الرد إلى حكمة الله ومشيئته، فإن أولئك القوم عندما اعترضوا على اختيار طالوت ملكا عليهم (قالوا أنى يكون له الملك… قال إن الله اصطفاه عليكم… والله يؤتي ملكه من يشاء)، فلقد كان جواب نبيهم الأول أن المسألة اصطفاء إلهي، ثم ذكر شيئا من مؤهلاته، ثم عاد لرد الأمر إلى المشيئة بقوله (والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم)، وهذه الطريقة نافعة في الرد على بعض الشبهات، إذ ليس الرد العلمي المنطقي هو المتعين دائما.
8- البسطة في العلم والجسم من مؤهلات الرئاسة: (وزاده بسطة في العلم والجسم).
9- السكينة معنى محسوس ويمكن إدراكه والشعور به: (إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم)، فقد جعل السكينة المتنزلة إذ ذاك آية لملكه! وقد يمر بعض المؤمنين بموقف عصيب جدا في يوم من حياته ويشعر فعلا بسكينة تتنزل عليه لا يعرف سببا لها، تكون مددا من الله له حينها، وفي سورة الفتح عدة آيات يمن الله فيها على الصحابة بإنزاله السكينة على قلوبهم في مواضع مفصلية وحاسمة من السيرة النبوية.
10- قد يوقن الإنسان أنه مقبل على امتحان حقيقي من الخالق ومع ذلك يفشل -نسأل الله العافية-:(قال إن الله مبتليكم بنهر…فشربوا منه إلا قليلا منهم).
11- واقعية الوحي في التعامل مع النفس البشرية وعدم مجافاته للضعف البشري: (إلا من اغترف غرفة بيده) فقد أباحت لهم الغرفة ولم تحرمهم الحرمان المطلق، وفي الشريعة صور خلابة من الواقعية لا أظن فيلسوفا من فلاسفة البشر يطلع عليها إلا وقع في غرامها! أرجو أن ييسر الله كتابة تدوينة فيها.
12- حتى الأولياء قد يخافون ويفزعون، فهم بشر، خلافا لبعض الفلسفات في تصويرها للإنسان الكامل: (قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) مع ملاحظة أن الذين صدر منهم هذا القول هم من الفئة التي نجحت في الاختبار الرباني بعدم الشرب من النهر!
13- خلافا للمفترض عقلا أو عادة، كثيرا ما تنتصر القلة على الكثرة: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة)، وكم هنا خبرية للتكثير، ولكن كيف يكون هذا النصر؟ (بإذن الله)، ولو تتبع أحدنا هذا القيد (بإذن الله) ومدى كثرته في القرآن فسيهوله هذا التكثيف العجيب لهذا المعنى، أن كل شيء إنما هو بإذن الله!
14- سلاح الانتصار الرئيسي: الافتقار إلى الله: (ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. فهزموهم) وانظروا إلى لفظ الإفراغ ما أجمله! إنهم يطالبون بإمدادهم بكميات ضخمة من الصبر حتى لكأنها تُصبّ عليهم من السماء صبّا، وتأملوا كيف اختصر الله أحداث المعركة في هذه الآية! كأنه يقول: بدأت المعركة، فافتقروا إلى الله، ففازوا، فالفاء في (هزموهم) تدل على الترتيب والتعقيب، فالمعركة إذاً معركة قلوب قبل أن تكون معركة أبدان!، وحيث إن القلوب قد تغربلت وتم تصفيتها وتنقيتها في جميع المشاهد السابقة على المعركة فقد كانت النتيجة محسومة سلفا!.
15- من فضل الله على الناس: تشريعه مدافعة الباطل، وإلا لفسد الكون: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل) فانظر كيف يتفضل الله علينا بما قضاه وقدره من هذه المدافعة! وهنيئا لأولئك الأبطال الحقيقيين الذين لولاهم لفسد الكوكب.
16- أخيرا وقفة مع المبالغين في طلب الاجتماع ونبذ الفرقة بالمعنى الحسي العددي، حيث فرّق الله جمع بني إسرائيل بالابتلاء بالنهر في وقت أشد ما يكونون بحاجة للاجتماع- بحسب نظر البعض- فنقص العدد كثيرا وتمت التصفية، فبقيت خلاصة هي التي نصر الله بها الدين، ولعل أولئك الكثرة الظاهرة إذا حضروا أن يكونوا سببا في الانهزام، وسبحان من يدبر الأمر!