متفكر في الجراح

الحمد لله، أما بعد:

فالجروح نوعان، جروح بدنية، وجروح نفسية، ذلك أن الإنسان في ذاته يتألف من جسد وروح، فالأذى الذي يقع عليه قد يقع ابتداءً على بدنه، وقد يقع على روحه، وأحياناً يكون هناك سريان من أحدهما إلى الآخر، فإذا تضرر الجسد بشدة فالنفس تتبعه، وإذا تضررت النفس بشدة فكثيرا ما يسري ذلك إلى الجسد ليصاب بآلام عضوية بدوره، وهذه حقيقة علمية وليس كلاما شاعريا، وقد كنت قبل يومين عند طبيب عظام بسبب آلام في الرقبة وأعلى الظهر فكان أول ما نصحني به لعلاج المشكلة هو تجنب الضغط النفسي! كما مرت بي هذه المعلومة في بعض الكتب المتخصصة عن التعامل مع كبار السن، والتي تثبت أن عددا من الأمراض التي تنشأ لديهم هي ناجمة أصلا عن معاناتهم النفسية بسبب الفراغ أو إهمال الأولاد…إلخ.

لكن الذي أود تركيز الضوء عليه في هذه التدوينة هو الجروح النفسية مقارنة بالجروح الحسية، وغرضي من ذلك سيتضح بلا شك عند قراءة بنود هذه المقارنة إن شاء الله، فهلم إلى المقارنة:

1- في حين أن الجروح الحسية هي مرئية للعين؛ فالجراح المعنوية تبقى خفية عن العين، وإن كانت غائرة متجذرة في نفس المجروح!

2- يترتب على ذلك أن الجريح الحسي يحظى غالبا بتعاطف الناس، وفي هذا مواساة له وتخفيف، في حين أن الجريح النفسي لا ينال أي تعاطف، بل بالعكس قد يتهمه الناس بالدلال أو الضعف أو العَتَه أو يسخرون به، إن الناس لا يتعاطفون إلا إذا رأوا دما يثعُب أو عظما ينكسر! فأما أن تكون روحك مطعونة طعنة نجلاء فهذا شأن خاص بك!

3- ينشأ عن تعاطف الناس مع الجريح الحسي أنهم يتضامنون معه، ويعذرونه، ويسقطون حقوقهم تجاهه، سواءً في نطاق أسرته أو عمله أو علاقاته، في حين تبقى مُطَالبتهم قائمةً تجاه الجريح الروحي، فهو موصوف بالتقصير ملوم على الإخلال بواجباته الأسرية والوظيفية والاجتماعية.

4- من ناحية التأثم والحرج الشرعي؛ فالأصل أن الناس يتحرجون عن ضرب أحد أو جرحه ويستعظمون فعل ذلك حتى لو كان مستضعفا، لكن كثيرا منهم لا يشعر بأدنى تحرج في جرح نفسية زوجته أو أولاده أو من هم أدنى منه منزلة من الناحية الاجتماعية! مع أن الذي أدين لله به شرعا أن جرح الأرواح قد يكون أغلظ شرعا عند الله وفي صحيفة الإنسان من جرح الأجساد! أوليست العرب تقول: (كلْم اللسان أنكى من كَلْم السِّنان)، ولعل هذا من أسباب التحذير الشديد في الشريعة من اللسان!

5- وفي الجانب القضائي؛ فإن الجراح الحسية يسهل تجريمها والمحاسبة عليها بل والقصاص فيها، بخلاف الجراح النفسية، لأنه لا يمكن رصد وقياس ضررها بشكل دقيق يضمن تحقيق العدل عند العقاب وإنزال القصاص، ناهيك عن أن وسيلة إلحاق الأذى النفسي قد تكون غير قابلة للإدانة القضائية أصلا، لأنها تتم بخبث، كأن تكون مجرد نظرة ذات دلالة، أو جملة لها معنى عادي ومعنى مسيء، أو كناية في الكلام، فيسهل التملص منها عند إرادة المحاسبة!

6- من ناحية التشافي؛ فكثيرا ما تكون الجروح الحسية أسرع التئاما وأقرب عافية من الجراح المعنوية، والتي يأخذ بعضها وقتا طويلا حتى يبرأ صاحبه منه، وقد يبقى نازفا طيلة عمر الإنسان، فيحاول التعايش مع ألمه.

7-وإنا لنجد أن الجراح الحسية تحظى بقائمة لا نهائية من الأدوية سريعة المفعول ظاهرة التأثير، أما الجراح المعنوية فهي فقيرة نسبيا مقارنة بنظيرتها الحسية.

ينتج عما سبق لَحْظُ جانب خلّاب من جوانب عظمة شريعتنا الراقية- مقارنة بالقوانين الوضعية- حين اعتنت بتأسيس بنيان أخلاقي راسخ منذ بداية نزول القرآن، حتى في العهد المكي الذي كان التركيز فيه على الجوانب العقدية والإيمانية تلحظ عناية مبكرة بالأخلاق، في مثل قوله تعالى: (فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر)، بل قد جعل القرآن خلاف ذلك صفةً من صفات المشركين- عياذاً بالله- في قوله تعالى: (أرأيت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدع اليتيم). لاحظوا أن التركيز على الأخلاق جاء من قبل تشريع الصيام والزكاة والحج وغير ذلك من شرائع الإسلام العظام!

من أجل صيانة الأرواح من الأذى يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ” إذا كُنْتُمْ ثَلاثَةً، فلا يَتَناجى اثْنانِ دُونَ صاحِبِهِما، فإنَّ ذلكَ يُحْزِنُهُ“، وهذا التنصيص الصريح على العلة يترتب عليه التحذير الشرعي من عدد من الأفعال التي قد تكون مباحة في أصلها إن كان يترتب عليها إحزان المؤمن.

من أجل الجروح المعنوية قال حبيبي وسيدي عليه الصلاة والسلام عن المجذومين: “لا تُحِدّوا النظر إليهم” رواه البيهقي وصححه الألباني، لما في ذلك من إشعاره وتذكيره بنقصه وأفضلية الناس عليه، وغالبا أن من به من علة كهذه يكره أن يطلع الناس عليه.

ولأجل الجروح النفسية نهى صلى الله عليه وسلم عن الضحك من الضرطة- وكان تصرفا شائعا في مجالس الجاهلية-، قائلا: “لِمَ يضحك أحدكم مما يفعل” متفق عليه.

ومراعاة للخواطر كان سيد الأخلاق يتجوّز في صلاته ويختصرها إذا سمع بكاء الصبي، يقول: “مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه” رواه البخاري.

هذا وفي الناس فئات لها أولوية خاصة في المراعاة في هذا الجانب، كالحساسين، والمغتربين الذين يعيشون بين أظهرنا، والإناث اللواتي وصفهن الحديث النبوي ب”القوارير”، وكل فئات الضعفة التي جعلها القرآن من فئة VIP في التعامل، كاليتامى والمساكين، ولا يتعارض هذا مع أهمية أن يعتني كل إنسان- كائنا من كان- بتقوية مناعته النفسية وصلابته الداخلية، فإن التعرض للتنمر والإساءة وارد الحصول لأي أحد.

ختاماً: لكم الله يا جرحى الأرواح، هو الوحيد الذي يعلم بكم وبكل ما تمرون به، أرحم بكم من أنفسكم ومن أمهاتكم، وأحب شيء إليه سماع شكواكم و(فضفضاتكم) ومداواة جراحكم، فهنيئا لكم به من إله، هنيئا لكم برحمته، وهنيئا لكم بحبه، وهنيئا لكم بعوضه لكم سبحانه! سيعوضكم بسخاء عن كل ذرة ألم أوجعتكم، وعن كل نقطة معاناة عكرت صفاء أرواحكم، (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره).

إن أردت شيئا من المواساة لجرحى الأرواح وغيرهم فتوجه إلى تدوينة: رقية المظاليم

رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker


رأيان حول “متفكر في الجراح

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s