يا صاحبة الجلالة

Photo by Anugrah Lohiya on Pexels.com

الحمد لله، أما بعد:

فلست أدري يا صاحبة الجلالة ما هذه الحيرة التي خيَّمَتْ عليَّ حين هممتُ بكتابة هذه التدوينة عنكِ ولكِ… أهو عِظَم شأنك عندي فلست أدري كيف أبدأ ولا بم أبدأ! أم أنه عارض سائد يعرض لدى الكتاب إذا أرادوا الحديث عن أمهاتهم؟ المهم أني لم أشعر بمثل هذه المشاعر فيما سبق كتابته من تدوينات! ولست أستغرب إذا جئت يوما من الدهر فقرأتُ هذه التدوينة فاستغربت مما قد يعروها من تقلُّب في الأسلوب أو تشتت في السرد، فإني أُقرُّ من الآن أن الموضوع غير منتظم في عقلي، وهل يمكن لعقلي أن ينتظم هذا الفيضان الداخلي الذي يفيض بي عندما أريد أن أكتب عنكِ!

لقد تفكّرتُ في عادات المجتمع يا أماه، فوجدت كثيراً منهم لا يخبرون الغير عن جميل مكنوناتهم تجاه من يحبونه إلا بعد وفاته! فلم أستسغ ذلك! إذ لماذا أَحرِم الشخصَ الذي أحبه من متعة الهتاف في الدنيا وأمام الملأ باسمه حتى إذا مات ملأت الدنيا برثائه! الحقيقة إنه لشيء عجيب، وقد يكون له ارتباطٌ ما بعادات الناس وطبائعهم في المجتمعات العربية، أما عني فقد قررت الحديث عن حبي وتعظيمي لصاحبة الجلالة وعدم تأجيل ذلك إلى بعد عمر طويل، هذه التدوينة يا أماه ليس سببها البر، وإنما سببها التقصير في البر، وسأبدأ حديثي مذكرا إياهم يا أماه أن يقولوا ما شاء الله إذا أعجبهم شيء…

عماذا أحدثهم يا مليكة القلب؟ هل أحدثهم عن اليسر الذي مُطِرتُ به حال حفظي القرآن في الطفولة؟ فكنت أحفظه هكذا لأني أريد أن أحفظه، فلو سألني سائل وقتها لماذا تحفظ القرآن لحرت في الجواب!، ثم إذ بك تحدثينني- عَرَضاً- يا سيدة السيدات بأن فترة حملك بي كانت فترة إقبال منك على الله وعلى تلاوة كتابه! حينها عرفت السبب في إقبالي حال طفولتي على كتاب الله!

أم أحدثهم يا أماه عن منظرك في ذلك الزفاف الذي اضطررت لاصطحابي معك فيه، فكنت أتداخل بين قدميك في كل خطوة تخطينها خوفا من فقدانك فلا تكادين تتجاوزين مترا دون أن تتعثري بي!، يا للهول!، كيف لم تركليني وقتها؟ كيف لم يصبك (القرف) من هذا (اللصقة)!

أم أحدثهم يا أماه عن منظرك حين كنت تزيحين الستار في كل يوم فتسترقين النظر لي ولأخي محمد من النافذة كيما تطمئنين علينا حال غدونا ورواحنا من وإلى المسجد..

أم أحدثهم يا أماه عن منظرك حين شمَّرتِ عن ساعديك وأجلسْتِني وسط ذلك الطست، من بعد ما أصابتني عين فصرت لا أستطيع الجهر بتلاوة القرآن، وأنت تسكبين علي من إبريق السدر رويدا رويدا فشفيت إثر ذلك واستعدت صوتي…

كلما تفكرت في هذه المواقف وأضعاف أضعافها مما لم أذكره أتساءل: يا ترى كيف كان سيكون مصيري لو لم تفعلي هذا الفعل أو ذاك! عندما أتبصر في مرآة الزمان فأرى نفسي قطعة لحم ليس لها حول ولا قوة، فلو رُميت في الشارع لتداعت إليها الكلاب أو القطط، إلام كان سيصير حالي لو لم تسكبي علي من إبريق السدر وقتها؟ إلام سيصير حالي لو لم تهرعي من فورك أنت والوالد لخياطة لساني بعد أن تدلى منقطعا بسبب عضي إياه إثر تلك السقطة العنيفة التي سقطتها فانغرست أسناني على لساني؟ إلام كان سيصير حالي لو لم تكونا في حياتي!

ثم كبر طفُلك يا أميرةَ طفلِك، وصار رجلا في أعين الناس لكنه لم يزل طفلا في قلبك الرؤوم، تمطرينه بالحنان كلما قست عليه الحياة، وتسقينه الندى كلما جفت عليه الدنيا، صار رجلا إذا أعجب به الناس فمدحوا عقله أو شخصيته أو نجاحه عاد إلى نفسه متفكرا أن كيف تكوَّنت هذه العقلية أو الشخصية؟ في أي تربية وُجدت ومن أي بيئة أسرية تشكَّلت!

هل أحدثهم يا صاحبة الجلالة عن تلك الدموع التي لمحتُها تترقرق في مقلة عينك وأنت تنظرين إليَّ فَرْحى وقد لبستُ بشت العريس في جوار عروسي؟ عن تلك اللحظة التي لمست فيها لأول مرة في حياتي أن من البكاء ما يكون سببه الفرح! أم أحدثهم عن عمرك الذي نذرتيه في رعاية والدي المريض حتى وافته المنية مع البر بوالدتك، رغم أنك أنت الآن قد صرت في وضعية من يجب الحفاوة به والمبالغة في بره!

لست أدري حقيقةً كيف يكون الحديث حال الكلام عن أمِّ لم تعمد في يوم من الأيام قط إلى أن تحدث ابنها عن أفضالها عليه ولم تحاول أن تلزمه بحقها عليه في البر، بل تنازلت هي و الوالد الكريم عن كافة حقوقهم عليه في البر مراعاة لظروفه ودعما له..

أأحدثهم عن كيف كنت أُمَّا لجميع أولادك على اختلاف شخصياتهم وطبائعهم وعقولهم فمهما تنوعوا فيما بينهم لكنهم ظلوا على نفس الدرجة من الهيام والإجلال لكِ؟

اغفري لي يا أماه أني خرجت إلى العالم وأنا أظن الجو الأسري الذي كنت أعيش فيه من السواء والاعتدال هو الجو في كافة الأسر حولنا، ثم عندما احتككت بالمجتمع فوجئت بكم النعم الذي كنت متظللاً به طيلة سني تربيتي، ثم لما رُزقت الذرية، بدأت أعرف ألوانا أخرى من تضحياتكم! ولكم قضت معي زوجتي الأوقات وهي تحدثني عن فضائلك وتنظر بعين جديدة إلى محاسن فيكِ لم أنتبه لها، فلها عليَّ في ذلك فضل سابغ.

لقد بدأت أشعر كأن الله كتب على ابن آدم أن يظل يدرك فضائل والديه قطرة قطرة كلما تقدم في العمر، فلا يكاد يصل إلى الإدراك التام إلا ويتفاجأ بأنهما ودعا الحياة أو كادا!

اغفري لي يا أماه أني ظننت تنازلك عن وظيفة معلمة-رغبةً منك في إيلائي وإخوتي أكبر قدر من الاهتمام والتربية والحنان- هو الوضع (الافتراضي) لكل أم، فلقد مرت بي الأيام حتى صرنا نرى كثيرا من النساء تفضلن الوظيفة و راتبها والبريق الاجتماعي على هذه المهمة العظيمة.

اغفري لي يا ماما أني لا أحسن غير الكلام، وأني ضعيف الفِعال، وقد حال بيني وبين برك على الوجه اللائق ما تعلمين، فلم أجد غير أن أحدث الناس بكم أنا محظوظ بكِ، وكم شَرُفْت بأن أكون ابنا لكِ، فاعفي عني واصفحي فإن الجزاء من جنس العمل.

رباه أوزعني أن أشكر نعمتك علي بكوني ابن السيدة ثريا بنت محمد قاسم مخدوم والسيد ياسين بن محمد جورة رحمه الله، واجمعني بهم وإخوتي والمؤمنين في فردوسك الأعلى بغير حساب ولا عذاب، رحمةً منك وتفضلاً يا ذا الجلال والإكرام🌹، اللهم احفظها لي ولإخوتي واحفظنا لها يا حافظ يا حفيظ.

أخيرا يا أصدقاء متفكر، لا يمضين قطار الحياة بوالديكم قبل أن تخبروهم وتخبروا الناس بكم الحب الذي تحملونه لهم، فلقد مضى والدي إلى رحمة الله العام الماضي ولا يزال في الصدر كلام حبيس لم أستطع البوح له به، وهل تحبون أن تبوحوا لي بشيء من ذلك وتشاركوني به في التعليقات! تفضلوا بذلك..

رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker


27 رأيا حول “يا صاحبة الجلالة

  1. ما شاء الله تبارك الله
    هنيئا والله لك بهذه الأم، ولطالما غبطت عليها، ما شاء الله تبارك الله
    أسأل الله أن يحفظها ويقر أعينكم بها ويعينكم على برها.
    ما شاء الله تبارك الله.

    Liked by 1 person

  2. صدقت في كل حرف وكلمة، ولو كتبنا عن أمنا ألف تدوينة ومقال ما أوفيناها حقها في مجرد وصف خصالها وبيان أفضالها، فضلا على نبرها، اللهم كما جمعتنا بأمنا في الدنيا فاجمعنا بها في الجنة يا أكرم الأكرمين

    Liked by 1 person

  3. استمتعت كثيرا بهذه التدوينة
    هنيئا لك بوالدتك رزقت برها وصحبتها ورضاها
    وهنيئا لوالدتك بك فقد أثمر غرسها ورعايتها جعلك الله قرة عين لها

    أقول وقد وقد صحبتكم (17سنة) أن قصتكم مع والدتكم كانت تثير عجبي كنت ألتمس من أخباركم عنها رجاحة العقل، وسعة البال، والتدين، والحرص على جمع العائلة، والحزم عند الحاجة
    كانت لكم نعم المعين على صعوبات الحياة
    أذكر تشجيعها لكم لما فكرتم باختيار التخصص الشرعي في المرحلة الجامعية وقد كنتم من المتفوقين في التخصص العلمي في المرحلة الثانوية
    أذكر تهيئتها للجو المناسب لما كنت أزوركم في منزلكم لنتذاكر كتاب دليل الطالب في المرحلة الجامعية
    وتفقدها لكم باتصالها حينما تكون بصحبتنا وقد خرجنا لنزهة أو سفر قريب

    أذكر إعانتها لكم لما تعرضتهم لأمر طارئ في الرياض فقدمت وبقيت بجوارك حتى تحسنت الأمور

    وقد تأكدت من عظيم محبتكم لها لما فرض الحظر الكامل في مكة أيام جائحة كورونا وتعذر عليكم زيارتها كما كنت تحب فشق عليكم ذلك جدا وأثر في نفسيتكم وكيف احتوت والدتكم برجاحة عقلها هذه الحادثة فجمعتكم مع إخوانك في اتصال فيديو وطمئنتكم عليها وكيف كانت كلماتها كالبلسم لكم في تقبل هذا الوضع الطارئ

    أتذكر كيف كنت تحدثا أنها كانت معينة لكم على برها وأنت لا تعلم كيف تشكرها وأنت كنت تخصها بدعوات وصدقات عنها وعن والديها

    أذكر فرحك لما رزقت ببنيتك فاسميتها على اسمها

    اللهم أطل عمرها على عمل صالح

    Liked by 1 person

  4. الأم هي الرحمة واللطف الذي تمثّل بشراً سويا ..
    متعكم الله بوالدتكم، وجعلكم قرّة لعينها وسعادة لقلبها.

    Liked by 1 person

  5. فعلا أمنا يا اخي الحبيب هي افضل و اعظم ام في الدنيا، دائما مبتسمة دائما مساندة لنا حتى و ان كانت متعبة، تطبطب جراحنا بيدها الحنونة و ان كانت هيه في لحظتها منهكة. كانت تأخذني بيدها للتحفيظ يوميا حتى ختمت كتاب الله و ختمته هي أيضا. كانت و لا زالت هي امي و اختي و صديقتي الصدوقة التي لم تجعلني احس يوما بحاجتي الى اخت او رفيقة حيث انني الفتاة الوحيدة للعائلة. شكرا يا أمي، انجبتِ و ربيت و تعبتِ و اليوم ترين نجاحك في اولادك.

    Liked by 1 person

  6. ما شاء الله
    الصراحة هذي نعمة عظيمة لازم تشكر الله عليها
    سواء والدتك الكريمة أو زوجتك الي تعينك على البر
    هنيئا لك بهذي الام وهذي الزوجة والله يخليك لهم ويخليهم لك.

    Liked by 1 person

  7. هنيئا لكم بهذه الأم النادرة في هذا الزمن…

    حقها أن يدعى لها ليلا ونهارا، ولن تبلغوا حقها، ونرجوا أن يجزيها الله خير الجزاء في الدنيا والآخرة.

    Liked by 1 person

  8. الحمدلله دائما وابدا
    الحمدلله بوجود امهات صالحات تضحي بنفسها من اجل ابنائها فجزاها الله خير الجزاء في الدنيا بوجد ابنائها قرة عينها حولها وهنيئا لها في الآخرة بجنات عرضها السماوات والارض
    تحياتي لكم

    Liked by 1 person

  9. الله يطول بأعمار امهاتنا جميعاً ويكسبنا برهم ورضاهم ويجعلنا ممن يقدمون لهم الغالي والنفيس لارضائهم

    شكراً دكتورنا الغالي على هذه التدوينه التي تجعلنا نراجع حساباتنا في تقصيرنا في بعض الاوقات وانشغالنا عن كسب برهم بمشاغل الحياه

    Liked by 1 person

  10. من أجمل التدوينات التي قرأتها تجعل الواحد يفتكر ويتذكر ما هو فيه من نعمة بوجود والديه واهتمامهما به وبسط واعطاء كل مافي وسعهما لأجل إسعاد هذا الابن المقصر في حقهما ..

    وأذكر اني عندما كنت في سن صغير كنت اذهب إلى التحفيظ رفقة والدي وكنت اتخوّف من أن أجلس بمفردي في الحلقة وكنت اريده ان يجلس معي حتى انتهاء الحلقة (من العصر الى قريب صلاة المغرب) يوميًا ، فلبّى لي ذلك وكان يوميًا يعود من العمل ويوصلني إلى التحفيظ ويبقى في المسجد حتى انتهي وهو متعب جدًا من بعد الدوام ، فكان تارة ينام وتارة ينهي بعض المهام المتعلقة بالعمل خلال وقت الانتظار هذا ..
    ولم اشعر بهذا الا عندما كبرت ووجدت نفسي حافظًا لكتاب الله ولله الحمد فتذكرت مرافقته لي كيف لو انها لم تكن فلن اجد نفسي في هذا اليوم حافظًا فالفضل لله ثم لأبي ..

    احببت مشاركة هذا الموقف لأني بعد قراءتي للتدوينة تذكرت كمًّا من المواقف التي حصلت وكان هذا من اهمها ..

    حفظ الله والدينا ورزقنا الله برهما أحياءً وأمواتًا

    Liked by 1 person

  11. لقد ذرفت عيناي وانا اقرأ مدونتك لا اعلم لما رغم انها ممتلئة
    بالسعادة ربي ارزقني ابنا يكون بارا لي كبرك لها سأكون اسعد امرأه في هذه الحياة ان رزقت مثلك يا بني . تبارك الله

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s