كيف يصنع المشغولون في رمضان؟

الحمد لله الذي بلّغنا شهر رمضان، هي نعمة من أعظم نعم السَّنة، وقد فصّلتُ أوجه عظمتها في التدوينة السابقة: أن تدرك رمضان..

في هذه التدوينة سأتكلم عن فئة من الناس، هي فئة فاضلة وحريصة على اغتنام فضائل هذا الشهر ولكنها منخرطة رغم إرادتها في بعض الظروف التي تحرمها من الاستمتاع برمضان كما يستمتع به الإنسان المتفرغ، وبالتالي فقد تشعر في هذه اللحظات- ونحن في مُفتَتَح الشهر- بنوع من الإحباط بسبب أن ظروفها غير مثالية لرمضان، وهذا الإحباط قد يستحوذ عليها ويعميها عن كثير من المكاسب والفرص الرائعة المتاحة حاليا، والإحباط يقتل الهمة ويبعث على انهزام النفس، ناهيك عن شعورها بالشتات عند رؤية البحر الزاخر من الطاعات والقرب الرمضانية لرغبتها في الفوز بنصيب من كل هذه الطاعات، فلهذه الفئة الأثيرة ، ولكل من يعاني من تصادم بين رغبته الصادقة في استغلال رمضان وبين ظروفه غير الملائمة، سأقوم بإشعال بعض الفوانيس الرمضانية التي أرجو أن تضيء لهم في هذه الليالي الساحرة، فخذ أيها القارئ من هذه الفوانيس ما تشعر أنه قوّى نفسك على الإقبال على الله، وأراحها من جلد الذات وظلم النفس، ودع ما لا يلائم حاجتك..

الفانوس الأول: ألا تعرفه؟ إنه الشكور سبحانه! إن التأمل في معاني اسم الشكور لوحده كفيل بعلاج كل المتاعب النفسية لهذه الفئة! الشكور هو الذي يجزي على القليل من العمل بالكثير من الأجر والفضل! قد يكون ما تقدمه قليلا في نظر نفسك لكنه عظيم عند الله وسيعود إليك مضاعفا أضعافا كثيرة بمحض رحمته وكرمه سبحانه، بل في بعض الأحيان يكون أجر صاحب العمل اليسير في الظاهر أعظم من أجر صاحب العمل الكبير! أليس يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: “سبقَ دِرهمٌ مائةَ ألفِ درهمٍ قالوا وَكَيفَ ؟ قالَ : كانَ لرجلٍ درهمانِ تصدَّقَ بأحدِهِما وانطلقَ رجلٌ إلى عُرضِ مالِهِ ، فأخذَ منهُ مائةَ ألفِ درهمٍ فتصدَّقَ بِها” فالله يحاسب كل واحد منا بحسب إمكانياته! وبالتالي فالدقيقة التي تنفقها من وقتك القليل المتاح ليست كالدقائق التي ينفقها الإنسان المتفرغ! والمسألة مسألة صدق مع الله عز وجل.

الفانوس الثاني: مهما كان؛ لا تتنازل عن الغنيمة الأساسية: الصوم هو عبادة الشهر، صحيح أننا جميعا نصوم، لكن قلة من الناس من يستثمر صومه الاستثمار الأمثل، والذي يتمثل في التفكر فيه والالتذاذ به واستخراج التقوى من خلاله، من الضروري جدا أن تجعل لنفسك وقتا قصيرا- ولو لعشرة دقائق أو ربع ساعة- يوميا تتفكر فيها في صيامك، افرح بهذه المراقبة لله في داخلك، التي تمنعك من ارتشاف قطرة ماء ولو كنت في جوف سابع أرض، تلذذ بالحديث العذب الذي جاء فيه: “كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، إلى سَبْع مِائَة ضِعْفٍ، قالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إلَّا الصَّوْمَ؛ فإنَّه لي، وَأَنَا أَجْزِي به، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِن أَجْلِي“، ما أجمل الإضافة إلى الذات الإلهية في قوله: “فإنه لي” وما أروع العلّة في قوله: ” من أجلي“، ستشعر بانبعاث روحي حنون، وتحس برابطة بينك وبين الإله لا يسعك الكلام لوصفها، تمر الساعات تلو الساعات وبطنك تقرقر جوعا فلا تلتفت لها، ولا تسمح لنفسك بمجرد أن تحدثك بالإفطار! هل ترى هذه المشاعر؟ إنها من التقوى الواردة في قوله تعالى (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، فلا تستقل صومك، بل افرح به فإن الفرح بالطاعة مندوب شرعا، واعلم أنك بتركيزك على أداء الصوم وإتقانه تكون قد كسبت أعظم غنائم الشهر، وهذا من تطبيقات قاعدة: الاهتمام بالفرائض يكون قبل النوافل، لحديث: “ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه”.

الفانوس الثالث: كيف تختار الأهم والأكثر أولوية من قائمة العبادات؟: من يعسر عليه الجمع فعليه أن يختار الأهم فالمهم، هل تشعر بالحيرة بين لزوم هذه العبادة أو تلك؟ لا تغضب من نفسك، فهذه الحالة وقعت لأحد الصحابة في العهد النبوي، وذلك “أنَّ رجلًا قال يا رسولَ اللهِ إنَّ شرائعَ الإسلامِ قد كثُرت عليَّ فأخبِرني بشيءٍ أتشبَّثُ به قال : لا يزالُ لسانُك رطبًا من ذكرِ اللهِ”، فلزوم عبادة معينة والتركيز عليها- لمن عسُر عليه الجمع- هو منهج شرعي مقرر، والقاعدة المنقولة عن السلف رضوان الله عليهم أن يلزم الإنسانُ العبادةَ التي يراها أشد نفعا لقلبه وأوفق لقدراته، ومسألة اختيار العبادة الأنسب للمؤمن تناولها شيخ الإسلام في عدة مواضع من كتبه أنقل لكم واحدا منها للفائدة:

(وسئل عَنْ رَجُلٍ أَرَادَ تَحْصِيلَ الثَّوَابِ: هَلْ الْأَفْضَلُ لَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ؟ أَوْ الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ؟

فأجاب: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَالذِّكْرُ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ الْمَفْضُولُ أَفْضَلَ مِنْ الْفَاضِلِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ… وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ النَّاسِ انْتِفَاعُهُ بِالْمَفْضُولِ أَكْثَرَ بِحَسَبِ حَالِهِ إمَّا لِاجْتِمَاعِ قَلْبِهِ عَلَيْهِ وَانْشِرَاحِ صَدْرِهِ لَهُ وَوُجُودِ قُوَّتِهِ لَهُ مِثْلُ مَنْ يَجِدُ ذَلِكَ فِي الذِّكْرِ أَحْيَانًا دُونَ الْقِرَاءَةِ فَيَكُونُ الْعَمَلُ الَّذِي أَتَى بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْكَامِلِ أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ عَلَى الْوَجْهِ النَّاقِصِ وَإِنْ كَانَ جِنْسُ هَذَا أَفْضَلَ وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ عَاجِزًا عَنْ الْأَفْضَلِ فَيَكُونُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ أَفْضَلَ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ).

الفانوس الرابع: أسهل الطاعات وأغلاها وأشدها ندرة! أعمال القلوب وما أدراك ما أعمال القلوب! تستطيع التعبد لله بها وأنت قائم وقاعد وعلى جَنْب، أثناء غدوِّك لمشاويرك ورجوعك منها، إن رمضان هو شهر التفكر على الحقيقة (طبعا لا أقولها من باب الدعاية لمدونة متفكر😎) وليس للتفكر طقوس معينة ولا وضعيات معينة، وبرهان كونِ رمضانَ شهرَ التفكر ما تكررت الإشارة إليه في عدة أحاديث نبوية مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “من صام رمضان إيمانا واحتسابا“، ” من قام رمضان إيمانا واحتسابا“، فنصوص رمضان تدل على أن الالتفات إلى أعمال القلوب مقصد أساسي من مقاصد الشهر الكريم، وهي بحر لا ساحل له.

ومما يدخل في أعمال القلوب احتساب النيات الصالحة، فإن قضاء حاجات الأهل، وأداء واجبات الوظيفة وأعباء الدراسة، كلها يمكن تحويلها إلى عبادات، وهذه العبادات على درجات كثيرة لا يعلمها إلا الله، وذلك بحسب ما يقوم بقلوب الناس، إن بإمكانك تحويل ذهابك لشراء (الفول) الذي يعشقه والدك من ذلك المحل المزدحم إلى نعيم روحي وعبادة فائقة عندما تشحذ لذلك عُدّتك من النيات الحسنة! فإذا كانت هذه الأعمال مشغلة لك عن العبادات المحضة فلا تستسلم ولا تلق السلاح! إنك باحتسابك لها عند الله قد تبلغ بها درجة أعلى وأوفى من صاحب عبادة محضة، لا أنسى في هذا الموضع كيف أن عثمان رضي الله عنه تخلف عن غزوة من أعظم الغزوات في الإسلام من أجل تمريض زوجته، وذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الفانوس الخامس: ترحيل فضول المباحات لما بعد الشهر، وربما المعاصي أيضا: أما عن المباحات فإننا لو اطّرحناها أرضا فسنجد إزائنا مساحات وقتية جديدة، لا داعي لكثرة انشغال النساء في إعداد الأطعمة وكأننا خارجون من مجاعة، ولا يُعقل أن تقضي فواصل يصل مجموعها إلى عدة ساعات يوميا على جهازك الذكي ثم تعتذر عن إكمالك ختمتك من كتاب الله، أما عن تأجيل المعاصي فمعاذ الله أن يُفهم من مطالبتي بالتأجيل أني أبيح التساهل في مشاهدة المسلسلات التي تنطوي على محاذير شرعية لا تنتهي، ولكني أقول لهذا الصنف: إن كنت ولا بد مشاهداً لهذه الأشياء فلم لا تؤجلها إلى ما بعد رمضان؟، تعظيما لحرمة الشهر واستثمارا لأيامه المعدودات! فإن كنت ولا بد مشاهدا أثناء رمضان فقلل من المدة المستهلكة في ذلك قدر المستطاع، إن تقليل الشر أفضل من إكماله لمن أبى تركه بالكلية، وهذه النقطة بالذات تبين لنا أن الانشغال الذي يشعر به بعض الناس هو انشغال وهمي وليس حقيقيا!، لا تنس أيها القارئ أننا خلقنا للعبادة، وأن الإنسان لو استحضر هذا جيدا فسيكتشف أن كثيرا مما يعتقده شغلا ضروريا قد تراجع للخلف ليحل محله الصلاة والذكر والدعاء وغيرها.

ختاما: الموازنة في سياسة النفس بين الترغيب والترهيب هي سر المسألة، والعبد الموفّق هو من يتوصل إلى التوليفة المناسبة لروحه التي تجعلها أكثر إقبالا على الخير وإدبارا عن الشر، وإن الله رفيق، وإنه ليحب الرفق في الأمر كله، ويدخل في هذا العموم: سياسة النفس.

ماذا عنكم معاشر المتفكرين؟ وبم تنصحون المشاغيل في رمضان؟

ملحوظة: أضاف أحد أصدقاء المدونة فكرةَ استغلال الأوقات بالذكر، لسهولته وعظم أجره، ولو مارسناه بالسبحة أو خاتم التسبيح فسنعجب من الأعداد الهائلة آخركل يوم.

رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker


6 آراء حول “كيف يصنع المشغولون في رمضان؟

  1. نصائح جيدة أتمنى أن نعمل بها في رمضان، وأريد أن أضيف تقليل النوم بنهار رمضان وأن نركز أن يكون بالليل، وذلك حتى لا يؤثر النوم على الصلاة في وقتها، وللرجال الصلاة في المسجد، فالصلاة في وقتها هي من أهم العبادات فهي أهم من قيام الليل، كذلك فإن النوم بالنهار يُقلل من اﻹحساس بالصيام ويقلل من فائدة الصوم ويقلل من التفكر كما ذكرت عن أهميته في نهار رمضان.
    كذلك فإن ميزة اﻹنسان المنشغل بشغل نافع (مثلاً عمل لخدمة المجتمع) فإنه يقل لديه وقت المعاصي ويكون أقل عرضة لها مقارنة بشخص أكثر فراغاً. التلفاز مثلاً أصبح من اﻷشياء التي لا يصل إليها المنشغلون بعمل حقيقي مفيد للناس، حتى خارج رمضان

    Liked by 1 person

  2. مساء الخير يا متفكر ، أعاننا الله وإياكم على قيام هذا الشهر المبارك ، من الأمور التي تعين على استغلال الوقت في رمضان خصوصًا مع امر الدراسة فيه ، النوم في الليل حتى لا يفوتنا النهار والقيام بالواجبات سواء دينية او دنيوية ومحاولة عدم التكاسل فهو عدوّ تنظيم واستغلال الوقت ، وتقبل الله صيامنا وكتب اجرنا في محاولاتنا لإدراك هذا الشهر الفضيل 🤍

    Liked by 1 person

      1. جزاك الله خير 🥀 على هذه المدونة

        وهناك عبادة اعتقد انها مناسبة جداً للمنشغلين وهي عبادة الاستماع للقرآن فمن كان منشغلا فليسمع وهو مشاويره او في عمله يقول العلامة ابن باز رحمه الله “فالمستمع الراغب فيما عند الله، المخلص لله شريك القارئ، له أجر عظيم، يكون له مثل أجر القاري، أو أعظم إذا كان عن إخلاص، وعن صدق، وعن رغبة فيما عند الله”
        وكذلك من كان منشغلا في عمله أو في قضاء حاجات اسرته فليتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بذلك.

        Liked by 1 person

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s