عيد في المشفى

بسم الله، في ثاني مساءات العيد، لاحظَتْ زوجتي اصفراراً خفيفاً في وجه طفلي الأصغر أويس، لم ألحظه وقتها حتى بعد أن رصدته، -هي في النهاية أم وأنا أب كما تعلمون 🙇🏻‍♂️-، فعزمنا على الذهاب به إلى المستشفى صبيحة اليوم التالي احتياطا…

هكذا استيقظنا ووافينا به مستشفى الأطفال، وكان الاصفرار قد بدأ يظهر عليه، وأخذ يتقيَّأ، وبدا واضحا أن هناك علةً مجهولةً حلَّت به، هناك قاموا بإخضاعه للمراقبة عدة ساعات وأخذوا عينات من دمه لإجراء بعض التحاليل، وأخبرونا أن التشخيص الغالب لمثل هذه الحالات أن يكون الطفل مصابا بأنيميا الفول والبقوليات، وفهمت منهم أن الأمر لا يستدعي كبير قلق، بعد ذلك كتب الطبيب له خروجا مع أَمْرِنا بمراقبته وإسراع العودة به حال بقاء الأعراض وعدم خفتها، لأن المفترض أن تخف من تلقاء نفسها بعد تخلص الجسد من بقايا الفول أو المادة المأكولة المثيرة للحساسية.

عاد الصبي إلى البيت لكن الاصفرار كان لا يزال يتكثّف على وجهه وجسده مما يدل على أن تكسّر الصفائح الدموية مستمر، تحوَّل إلى كائن كسول لا يبرح مكانه، ويستغرق معظم وقته نائما خلافا للعادة عند الأطفال، هكذا عدنا به إلى المستشفى وها هنا قرر الطبيب ضرورة تنويمه لملاحظته عن قرب إلى أن يتعافى ويتجدد.

حسنا، نحن الآن في اليوم الرابع، كنت في هذه اللحظات قد بدأت أعيش شعور الضحية، وتسلل إلى أجوائي النفسية شعور خانق جراء إلغاء جميع خطط العيد وفعالياته التي كنا مترقبين لها، وشعرت بحاجتي لعمل خلوة! ومصطلح الخلوة عند متفكر هو مصطلح يعني به الدخول في حالة من التركيز والاعتزال من أجل التفكر في قضية معينة يعاني منها ونحو ذلك، هكذا اتفقت مع زوجي على تركها مع أويس فترة الظهيرة بعد أن تقرر موضوع تنويمه، وتوجهت بعدها إلى الكافيه الذي كنت أقضي فيه كثيرا من صباحاتي أيام انشغالي ببحث الدكتوراه، وها هنا بدأت أنتبه لبعض الأمور التي حوَّلَتْ مشاعري من شعور الضحية إلى الشعور بالحياء من الله والازراء على نفسي الكفورة، حيث جعلتُ أقول لنفسي (أو يقول لي قريني من الملائكة ربما):

أليس من نعمة الله عليك وجود مستشفى كبير ومجهز، تستطيع الذهاب إليه والتعالج عنده والاطئمنان على ابنك!

أليس من نعمة الله عليك أن هذا المستشفى يقع بالقرب منك في حين أن بعض المراجعين يقطعون مسافات طويلة حتى يصلوا إلى أقرب مشفى! وأنك ساعة وصولك لم يكن ثمة ازدحام، فلم تنتظر طويلا حتى دخل عليك الطبيب..

أليس من نعمة الله عليك أن ابنك يتعالج فيه مجانا! فلو لم يكن كذلك لأنفقت عدة آلاف في غضون هذين اليومين!

أليس من نعمة الله عليك وجود دم جاهز في بنك الدم بحيث تم جلبه وتزويد ابنك به بعد أن نقص الهيموجلوبين في جسده! وهذه المحاليل الغذائية، وهذه الأدوية، كل واحدة منها نعمة في حد ذاتها. إن التفكير في احتمالية غياب كل عنصر من هذه العناصر كان سيعمق المشكلة الحالية.

أليس من نعمة الله عليك سماحهم بوجود مُرافِق للصبي؟ فلو لم يكن مسموحاً لشقي بوحدته وأشقاك! ثم أليس وجود أمه كمرافقة بجواره تؤانسه وتصبّره على قرابة عشرة إبر اخترقت جسده لأغراض مختلفة هو نعمة أيضا في حد ذاته! ماذا لو لم تكن أمه بالجوار! وماذا لو لم تكن عمته أيضا بالجوار لتنوب عن أمه عندما احتاجت للراحة! شكرا أيتها العمة صفاء😘.

هذه التفكرات قادتني إلى نتيجة، ألا وهي أن العبد حتى وهو في غمرة البلاء فإنه غارق حتى أذنيه في النعم،ولست أتكلم هنا عن أن الإنسان حين يصيبه 5% من البلاء فإنه ينسى 95% من النعم الأخرى التي يرفل فيها!، فهذه نعرفها جميعا، إنما أتكلم عن أن ال5% ذاتها هي محفوفة بداخلها بجوانب متعددة من التخفيفات والألطاف، ناهيك عن الأجور العظيمة وتكفير السيئات اللذين وُعد بهما المؤمن جراء صبره على هذه الخمسة بالمئة.

وهذا من الجوانب التي تجلي للمتفكرين أمثالكم وجه إقسام الله عز وجل في سورة العاديات على أن الإنسان لربه كنود! وأنت إذا تأملت في أقسام الله جل وعلا في القرآن فإنك ستجده إنما يقسم على الحقائق المتجذرة غاية التجذر في الوجود، التي يجب أن تستقر في وجداننا فلا تبارحه، إن جحود الإنسان لنعم ربه لهو حقيقة كبرى سيلحظها أي شخص متفكر في هذه الحياة العجيبة، (قُتِل الإنسان ما أكفره).

و إذا كان هذا هو سلوك الإنسان مع ربه، فما بالنا ننزعج أشد الانزعاج عندما يمارس أحدهم هذا السلوك في حقنا! يجب التكيّف مع هذه الحقيقة واحتساب أجر ما نبذله للناس عند الله بغض النظر عن حفظهم الجميل أم لا، لا داعي لأن ننصدم ونتفاجأ في كل مرة يجحدنا أحدهم فيها، فهذا هو الأصل فيهم إلا من شَكَر، ولا يستلزم هذا أن ننظر إلى الناس بسوداوية! بل ننظر إليهم باتزان وواقعية تستوعب كون البشر دائما عبارة عن خليط من الخير والشر.

أخيراً: جرِّب أن تفكر في معاناتك الحالية التي تقض مضجعك، وإني لضامن لك أنك ستستخرج منها ما تشكر الله عليه! اللهم اجعلنا من القلة المتميزة النادرة التي قلت عنها: (وقليل من عبادي الشكور)، ولا تنزعج من سرعة عودتك لحالة التضجر والجزع- كما عدت أنا لذلك بعد يومين- فإن الفلاح بكثرة الإنابة والرجوع لهذه الحقائق بعد نسيانها.

عفوا: نسيتم طمأنتكم على أويس، هو بخير الآن ولله الحمد، وقد عاد لمشاغباته المعتادة ومشاكله المألوفة مع الثريا، وكم كان مؤنسا لي رؤية هذه المشاكل مرة أخرى بعد انقطاعها😬، وذلك لأنها أثر من آثار عافيتهم. اللهم احفظ لي أطفالي وجميع أطفالكم يا رفاق التفكر، آمين.


12 رأيا حول “عيد في المشفى

  1. حفظه الله وجعله قرة عين لك ووالدته
    مما لاشك فيه ان النعم التي نرفل بها لا يمكن حصرها ولكن أين المتفكر وقديما قيل كثرة المساس تفقد الإحساس

    إعجاب

  2. الحمدلله على سلامة أويس
    أويس اسم جميل حفظه الله
    جاءت هذه المدونة في وقتها يا متفكر
    في آخر أيام رمضان اكتشفنا مرض سيء مع أبي وخضع لعملية في آخر يوم من رمضان وكان عيداً مختلفاً ولا أخفيك أني في البداية نظرت إلى كل شيء حولي نظرة سوداوية و بدأت أشعر بالجزع ولكن مع مرور الوقت تفكرت في ألطاف الله بنا وتذكرت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إنما الصبر عند الصدمة الأولى
    فالحمدلله على كل حال..اللهم صبرنا وثبتنا

    إعجاب

  3. جميل قراءة وقائع الحياة …كم مر بنا مثل هذا الموقف ولكن لم نسجل له بصمة .. بوىكت وبورك قلمك

    إعجاب

  4. الحمدلله على سلامته
    نحمد الله ونشكره على كثرة نعمه، والشكر والحمد اعلى مراتب الصبر فلا يمكن بلوغها إلا بالفعل، كذلك أتذكر أن أشكر والديّ فقد كنت في صغري كثير المرض.
    يقول الله سبحانه وتعالى “وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ” يقول بعض المفسرين أن معناه المعنى وآتاكم من كل ما سألتموه ومن كل مالم تسألوه (مثل نعمة الشمس والقمر).
    اللهم بلغنا مرتبة الشكر وادم علينا الصحة والعافيه.

    Liked by 1 person

  5. حمدًا لله على سلامته وجعله الله قرة عينٍ لك يامتفكر ولأمه ، فعلًا التفكر في نعم الله وقت الشده والرخاء لهو أمرٌ جميل لأننا نستوعب كمية النِعم التي لا نحس بأهميتها فإذا بها تكون أشد أهميةً من أمورٍ نظنّ أنها الأهم من هذه النِعم التي نستصغرها ، فالحمدلله يا الله على كل نعمةٍ أنعمت بها علينا 🤍

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s