نصيحة علنية لباتمان

لا ينبغي أن تتحمل كل هؤلاء الأشرار ثم تنزعج من نقدي اللطيف، أليس كذلك!

بسم الله، من عبدالله المتفكر إلى بات مان عظيم جوثام، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد:

فإني منذ وعيت نفسي في الدنيا وأنت تظهر أمامي كرمز للخير والعدالة، تارةً في مسلسل كرتوني، وتارة في لعبة فيديو، وتارة في كوميكس، ثم إني لما كبرت وبدأت أمارس عبادة التفكر، وجدت أن رمزية الخير والبطولة هذه ليست بذات البريق اللامع أيام الصبا، ورغم أني لا أشاهد الأفلام الآن ولا أعبأ بها، لكني في نفس الوقت أعلم أن صناعة الأبطال الخارقين تكاد تستحوذ اليوم على قلوب أعداد ضخمة من شباب البشرية اليوم، فهذه النصيحة العلنية لك ليست باعتباري مسلما فقط، وإنما باعتباري إنسانا ساخطا على ثيمة الأبطال الخارقين الهرائية هذه، التي باتت تطل علينا في كل قارعة طريق نسلكها في أثير الانترنت، وكعادة متفكر، فإني سأنثر نقدي لك على هيئة نقاط:

الهراء الأول: الطيبة البالغة حد الغباء أو السَّلَس الأخلاقي: الجوكر يخرج ليقتل مئات الأبرياء ثم يأتي البطل الهمام ليودعه السجن، ثم يهرب الجوكر فيقتل مئات الأبرياء ليعود الرجل الوطواط فيقبض عليه ويدخل السجن، لاحقا يتمكن الجوكر من الخروج فيجهز على مئات المساكين…إلخ ألا تشعر بشيء من البلاهة في منطقك الأخلاقي؟ أم أنك مجرد كتلة من العضلات المتناسقة؟ إنك ترفض القتل لأن القتل شيء بغيض بالنسبة إليك، ولأنك تمثل قانونا جنائيا متمدِّنا جداً جداً لدرجة أنه يرفض الإعدام باعتباره شيئا همجيا، وفي سبيل محافظتكم على هذا المستوى السامق من الأخلاق لا بأس عندكم بأن يمارس المجرمون في عالمكم ترميل آلاف النساء وتيتيم آلاف الأولاد وتخريب آلاف المباني فقط من أجل هذه المسحة الإنسانية البائسة!

في شريعتنا الغراء أيها الباتمان نمتلك موازنة فريدة بين العدل والرحمة، وبين العفو والحزم، فلا يجوز عندنا العفو إذا ترتب عليه إفساد، بدلالة مفهوم المخالفة في قوله تعالى (فمن عفا وأصلح فأجره على الله)، وفي حالة القتلة والسفاحين والمفسدين في الأرض، فإن الحل الأمثل عندنا هو بتر العضو الفاسد من الجسد، أما أنت فلا أفهم من هذا الانفراط الأخلاقي عندك إلا أن دم الجوكر أغلى وأثمن عندكم من دم الآلاف من سكان جوثام البريئين! ماذا؟ تقول إنك بقاء هؤلاء المجرمين هو شيء ضروري لاستمرار سلسلة أفلامك و (أكل عيشك)! طيب لا بأس إذا كان هذا مقصدا عندك، ولكن كف لاحقا عن ترديد شعارات مكافحة الجريمة ونحوها مادام الأمر قد تحول إلى تجارة!

الهراء الثاني: اختزال الشر في أبسط صوره وأكثرها سطحية: أعداؤك يا باتمان هم غالبا القتلة والسفاحون والحمقى الذين يسعون للسيطرة على العالم أو محوه- وإن تنوعت وتعقدت دوافعهم-، وكأن ليس في الدنيا أشرار غيرهم، مع أنهم أوضح النماذج الإجرامية، لماذا لا تحارب- ولو على سبيل التنويع ودفع السآمة- المجرمين الحقيقيين الذين يعيثون في الكوكب فسادا؟ لماذا لا تعادي ملوك صناعة الإباحية الذين يلوِّثون طهارة البشرية جمعاء، الذين يتسببون في تزهيد ملايين الأزواج بزوجاتهم ويدمرون علاقاتهم الحميمة، الذين أظهروا لنا أنواعا جديدة من الإدمان والاضطرابات النفسية التي لم تكن ذرية آدم تعرفها!، لماذا لا نراك تصطدم في أفلامك بأباطرة البلاستيك الذين يدمرون بيئتنا الحالية تدميرا بطيئا ويحوِّلون الكوكب إلى مكان غير صالح للحياة لبلايين الكائنات الحية البريئة! ماذا؟ تقول إن في هذا محاربة للرأسمالية الغربية وأنك بهذا تخل بالضوابط التي وضعوها لك في ممارسة العدالة؟ ممممم، فهمت، إذاً هذا خارج نطاق قدرتك، لا بأس.

الهراء الثالث: من حقي كبشع أن أكون بطلا: لماذا لا يكون الأبطال الخارقون إلا أناسا وسيمين وذوي قدرات جسدية فائقة؟ هل هناك تلازم عندكم بين قيمة الحق وبين الجمال الظاهري؟ ألا تدركون أن البشرية الآن تعيش في تعاسة مستفحلة بسبب التمحور حول الجمال الخارجي ومقاييسه الظالمة! فضلا أفسحوا مجالا لذوي الجمال المتوسط وما دونه! ففيهم من هو أشد كفاحا للباطل ونصرة للخير منكم يا أيها الموديلز.

الهراء الرابع: تمجيد البطولات الفردية: أنت وشركاؤك من الأبطال الخارقين تبنون عالما يمجّد للبطولات الفردية وحدها، البطل فيه هو الذي يقوم بكل الأشياء الجوهرية من أجل قمع الشر، وهذا المفهوم الساذج جدا يغيظني، ذلك أن البطولة الفردية هي شيء يكاد يكون غير موجود في الواقع، ومعظم ما نراه من إنجازات في الدنيا هو نتاج جهود جماعية، وكل من يراه الناس بطلا فرديا ما كان لينجح في خطوته الأخيرة لولا تضافر واجتماع مجموعة معقدة وهائلة من الناس الذين ساندوه في ذلك، سواء من ساهموا في تكوينه كبطل، مثل والديه، ومعلّميه الذين أثّروا فيه، ورفقة دربه الذين شكّلوا شخصيته، أو الذين مدّوا له يد العون أثناء بطولته، وعندنا في السنة يقول الحبيب عليه الصلاة والسلام: “.إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ : صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صُنْعِهِ الْخَيْرَ ، وَالرَّامِيَ بِهِ ، وَمُنَبِّلَهُ” فانظر كيف توزع الفضل بين الثلاثة رغم أن الناس سيسلطون الضوء وعدسات الكاميرات غالبا على شخص واحد منهم، وهو الذي رمى بالسهم فقتل العدو! الله أكبر! ما أجمله من دين- لو كانوا يتفكرون-!

هذا التصميم غير الواقعي لمفهوم البطل الفرداني يا باتمان يجعل الناس يتعاملون مع دنياهم بهذه الطريقة، إنهم يائسون من استصلاح الأوضاع في دنيانا لأنهم يلقون على عاتقهم إصلاح كل شيء وإلا فلا، ناهيك عن شريحة منهم لا تميل لمكافحة الفساد إلا إذا كانت الأضواء مسلطة عليها، كما تفعل أنت ورفاقك المراؤون.

النقد الخامس: الخير ينتصر دائما: عزيزي باتمان، منذ عرفتك في السن التي كنت أهيم فيها إعجابا ببدلتك الأنيقة، وصولا إلى السن الذي كبرت فيه وصرت أستسخف فيه كون الأبطال الخارقين يتميزون ببدلات خاصة، وأنت تنتصر دائما، حرام عليك يا رجل، إنك تزرع في اللاوعي الجمعي أن الخير لا بد أن ينتصر ممثلوه دائما، صحيح أنهم ينهزمون لمدة ساعتين أو أكثر، لكنهم يقومون من الرماد بعدها ليحلقوا في الأفق! اتق الله في متابعيك، إن الصراع بين الخير والشر لهو أعقد من هذه الصورة، وفي شريعتنا الغراء إخبار لنا عن انتهاء دعوة بعض الأنبياء باغتيالهم على يد أقوامهم، وأخبار عن موافاة بعضهم يوم المحشر ولم يؤمن به إلا الرجل والرجلان، وفي القرآن يقول الحق (وتلك الأيام نداولها بين الناس)، والدنيا عندنا أهون وأقصر وأقل من أن نتطلب انتصار الخير في كل صراعاتها، ناهيك عن خطأ فكري فادح يا باتي، ألا وهو أن الأبطال الخارقين يحتكرون الخير في أنفسهم، وهذه سقطة فلسفية أخرى من وجهة نظري، ليس الخير هو باتمان! وإنما باتمان هو من جملة أنصار الخير، وبالتالي لا يلزم من انهزام باتمان انهزام الخير.

ملحوظة: فيما يتعلق بإمهال الظالم، فقد عالجت بعض جوانبها في تدوينتي: رقية المظاليم.

بهذا انتهيت من فضفضتي إليك يا باتمان، وقد تردُّ علي قائلا: هل هناك تداخل بين الترفيه والأخلاق حتى تقوم بشن هذه الغارات يا متفكر في وقت يهنأ فيه عشاق باتمان بآخر أفلامه؟ في الحقيقة أنه بغض النظر عن رأيي الشخصي في الموضوع فإن أولياء أمرك يقومون بتضمين بعض القيم التي يؤمنون بها في منتجاتهم الترفيهية، فإن ما يحصل حاليا في هذه العوالم الترفيهية من إبراز ذوي البشرة السوداء، وإبراز الأبطال الخارقات، ونحو ذلك، كله نابع من النظريات الحقوقية التي تدعو لتمكين السود وتمكين المرأة وغير ذلك، بالتالي لا يدّعين أحد أن هذه المنتجات الترفيهية مبتورة الصلة بالقيم.

طبعا هذه جرعة من التفكر النقدي في عالم الأبطال الخارقين غير الجرعة المعروفة التي أنتقدها كمسلم، مثل تسليع المرأة في مثل هذه الأفلام، وكونك يا باتمان زير نساء وشخصاً غير عفيف ولا يتنزّه عن الفاحشة التي يدين هو كمسيحي بكونها من موبقات، ناهيك عن كونك خيالا، بينما نستمد نحن المسلمون إلهامنا من أبطال حقيقيين في تاريخنا.

مممم أعتقد أن نسبة كبيرة من موقف القارئ تجاه هذا النقد تعتمد على عمره الحالي ومدى نضجه العقلي وثقافته، ولكن إذا استحضرنا أن عددا كبيرا من البشر يتابعون هذه الأشياء هم أطفال ومراهقون فستفهمون مدى الانزعاج الذي يحصل لدى متفكر عند استشعاره بإمكانية تجذر المفاهيم سالفة الذكر في نفوس الناشئة، بغض النظر عن اختلاف ثقافاتهم وأديانهم.

ختاما: ما رأيكم يا أصدقاء متفكر في هذه النصيحة؟ وهل تشاركون متفكر في استياءه من عوالم الأبطال الخارقين أم تعتقدون أن حداثة عهدي بالزكام أثّرت على جودة تفكراتي😒؟

رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker


8 آراء حول “نصيحة علنية لباتمان

  1. جزاك الله خير على هذه المدونة 🥀
    أستطيع القول أنني أتفق معك في غالب حديثك،
    بالإضافة إلى أن مسلسلات أو أفلام الأبطال تجد فيها غرس للعديد من الأفكار المخالفة للفطرة الصحيحة ولشريعتنا بل حتى لمختلف الشرائع من حيث ابراز اصحاب الميول المنحرفة (وهذه برزت حديثاً) حتى أصبحت للأسف غير صالحة للمشاهدة بالنسبة للأطفال.

    Liked by 1 person

  2. مساء الخير يا متفكر ، موضوعك اثار فضولي بما ان باتمان شخصية مفضلة لدي 😂 ولكن مفضلة كَـ شخصية لما يصنعوه من مقتنيات بِـ شِعاره والخ ، ولكن لم يخطُر بِبالي وانا اتابع سلسلة الأفلام هذه انهم يقتلون الأبرياء ويتركون المجرمين والاشرار لِـ يهربوا ويعودوا فَـ يقتلون المزيد والمزيد فَـ أنا أتابع للتسلية فقط لا أكثر، فعلًا موضوع مثير للاشمئزاز اذا تفكّرنا في الموضوع بهذه الطريقة ان يربطوا الخير بوجود باتمان فقط وإن ذهب ذهبَ الخير معه ، وبالنسبة لِـ بقية الأبطال فَـ فِعلًا هم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بِـ مساعدة وجهدٍ عظيم وجبّار لا نُنكر ان هذه الجهود في الأفلام ليست بِـ جبّارة بلى هيَ كذلك ولكنها لا شيء مقارنةً بما يمكن ان تُفسد من أخلاق ومبادئ وقيَم ، موضوع جميل خارج عن المُعتاد 🤙🏻

    Liked by 1 person

  3. الله الله الله 💜
    تدوينة مُوَفَّقَة جدًّا يا دكتور .. استمتعتُ جدًّا وأنا أقرأ
    وأثرتَ فضولي جدًّا في التساؤلات التي طرحتها
    جزاكم الله خير الجزاء يا دكتور ورضيَ عنكم يا رب 🤲🏻💜

    Liked by 1 person

  4. كفيت ووفيت… المقالة ممتعة ومفيدة، وهذا مايجب أن نتفطن اليه،ليس دائما الخير ينتصر على الشر، والبطل لايموت، لو كان كذلك لتغيرت الموازن.

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s