أن تدرك رمضان

بسم الله. هل تدري ما معنى أن تٌدرِكَ رمضان؟

معنى أن تتاح لك الفرصة لتفرُك روحك المتّسخة من سواد هذه الحياة وغبارها! فلا تزال تغسلها بماء الطاعات في رمضان حتى تعود صافية طاهرة مرتوية…

أتدري معنى أن تتاح لك فرصة المحو والإزالة لذنوب سنوات مضت، قد سُجِّلت ودُوِّنت فتراكَمَت في صحيفتك مهما تكن قد نسيتها…معنى أن تتاح لك إمكانية الانعتاق من نار قد تكون مستحقا لصَلْيها حاليا في حال وافاك الأجل!

هل رأيت المطر؟ هل ترى قطراته الغزيرة المنهمرة المتتابعة؟ إن رمضان هو شهر الأمطار الرحمانية! كل لحظة فيه ممتلئة بقطرات لا تحصى من الكرم والجود، الشهر الذي يفتح الرب فيه لعباده طرقات شتى متنوعة للتقرب إليه، كل طريق منها أجمل من الآخر…

هل تشعر بحقيقة أنك على وشك أن تسبح في حيّز زمني تتفتح فيه أبواب السماء في انتظار دعواتنا وأمنياتنا… أن تأتيك فرصة ذهبية لترسل فيها هداياك الثمينة لأحباب غيَّبهم التراب وطال عليهم الشوق في انتظار دعواتك التي تتحيَّن بها أوقات الإجابة الباذخة في رمضان!

أن تدخل وقتا تتحرر فيه أرواحنا من أغلال الشياطين لترسُف فيه الشياطين نفسُها في أغلالها وتقاد بعيدا إلى حين ينتهي هذا الوقت المقدس، فتنبعث نفوس الناس إلى خالقها في مشهد بديع لا يختلف على ملاحظته اثنان…

أن يهَبَ الله فيه جسدك راحة إجبارية من عناء افتراس وهضم الأطعمة طيلة 11 شهرا…

أن يحرِّر الله فيك روحك المرهقة وقلبك المتصلّد من آثار الشبع وامتلاء البطن التي هي من أكبر معيقات التفكر وأعمال القلوب…

أن تؤلم بطنَك قرصةُ الجوع فتتفكّر هامساً لقلبك: إنما أترك طعامي لك يا ألله! فتنهمر على قلبك وروحك شلالات الأنس والنعيم الروحي الذي لا يزال يبحث عنه معظم سكان الكرة الأرضية حيارى لا يعرفون من أين يستمدونه!

أن يعظّم الله لك فيه المكافآت والحوافز الله للإقبال على هدايته التي منّ بها على أهل الأرض حين أنزل عليهم هذا الكتاب العظيم…

أن يفتح الرب فيه أبوابا إضافية لعباده كي يقفوا بين يديه فيسمع منهم، ويقبل عليهم، ويتفضل عليهم بمنحهم هذا الشرف المهيب، شرف الدخول عليه..

أن ترى فيه صورة عجيبة من صور وحدة الأمة التي طال افتراقها، حيث يجمتع فيه مليار ونصف المليار من البشر على نظام محدد طواعية لله، يصومون مع طلوع الفجر، ويفطرون مع غروب الشمس..

أيها العبد، ألا إننا قد خلقنا للعبادة، وإن رمضان لهو شهر العبادة، فأقبل عليه لتحقق ذاتك وتنسجم مع الباعث المزروع في داخلك الذي يبتغي تحقيق المعنى من هذه الحياة بأسرها..ألا إن أعوام المؤمنين لتبدأ مع رمضان وليس في شهر محرم!

فإن قلت لي كيف أستعد لرمضان؟

فسأقول لك: هي وصية واحدة، ليس لها ثان: الافتقار، ثم الافتقار، ثم الافتقار، أرِ الله هذا الافتقار الصادق منك ليقول كن، فيكون أسعد رمضان لقلبك، وأقربه إلى ربك..

افتقر ما استطعت، سواء جسدت هذا الافتقار في مقام قلبي متكرر تعيشه قائما أو قاعدا أو على جنب، أو جسَّدته في دعوات خافتة مختلجة منكسرة، أو جسدته في سجود تغوص به إلى أعماق العبودية، المهم أن تفتقر، وأن يرى منك ربك يقينك الثابت أنك بدونه لن تصل..

هل تعلم أن ملك الموت يحصد في كل وقت وكل مكان أرواحا أَمَرَه ربه بقبضها، أرواحا بعضها تُقْطفُ قبل دخول ليلة الشهر الأولى بلحظات، بعضها أرواح شابّة غضّة، وبعضها أرواح شابَتَ وذبُلتْ..

أيها المؤمن المحب لرمضان: مهما عشت، فسيأتيك وقت تُخطف فيه روحك قبل رمضان من الرمضانات، فتتمنى لو أنك فقط أدركته ثم مت! ستصوم أحد الرمضانات غير عالم أنه رمضانك الأخير وأنك لن تدرك نظيره التالي!
وقد تعيش طويلا، فيأتيك وقت تُدرِك فيه رمضان لكنك تتفاجأ بأن صحتك لم تعد قادرة على صيامه أو الالتذاذ بقيامه! رأيت جدتي لأمي تبكي بسبب منع الطبيب لها من صيام رمضان للأبد نظراً لظروفها، وكلما التقيتها في رمضان جديد أجدها تبكي مرة أخرى…

اللهم لك الحمد على أن شرعتَ لنا رمضان، ولك الحمد على أن عرَّفْتنا بفضائله في كتابك وعلى يد رسولك، وكما مننت علينا بهذين فمن علينا بإدراكه واستثماره، اللهم اقسم لنا فيه من عبادتك والحظوة عندك والقرب إليك أوفر الحظ والنصيب، اللهم رقق هذه القلوب الشائخة، وابعث إليك هذه الأرواح الجافة، اللهم قد أنهكنا الجري في هذه الدنيا فلا تشغلنا بها عن آخرتنا، آمين.

ختاما: حدثوني عنكم أيها المتفكرون؟ كيف هي مشاعركم مع الضيف المنتظر؟ وهل تقترحون شيئا تودون لو تفكرنا فيه الأسابيع القادمة؟ هل عندكم من أسئلة تودون الإجابة عليها في تدوينة خاصة بالأسئلة؟

رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker


14 رأيا حول “أن تدرك رمضان

  1. أشكرك أخي د. عبد الله على هذه الكلمات المحفزة، وعلى إبداعك المعتاد والمتجدد.

    من أعظم النصوص التي تؤثر في نفسي وتبيّن بجلاء نعمة إدراك رمضان:

    حديث طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، أنَّ رَجُلَيْنِ مِن بَلِيٍّ قَدِما عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وكانَ إسْلامُهُما جَمِيعًا، فَكانَ أحَدُهُما أشَدَّ اجْتِهادًا مِنَ الآخَرِ، فَغَزا المُجْتَهِدُ مِنهُما فاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ مَكَثَ الآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ، قالَ طَلْحَةُ: فَرَأيْتُ فِي المَنامِ: بَيْنا أنا عِنْدَ بابِ الجَنَّةِ، إذا أنا بِهِما، فَخَرَجَ خارِجٌ مِنَ الجَنَّةِ، فَأذِنَ لِلَّذِي تُوُفِّيَ الآخِرَ مِنهُما، ثُمَّ خَرَجَ، فَأذِنَ لِلَّذِي اسْتُشْهِدَ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيَّ، فَقالَ: ارْجِعْ، فَإنَّكَ لَمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ، فَأصْبَحَ طَلْحَةُ يُحَدِّثُ بِهِ النّاسَ، فَعَجِبُوا لِذَلِكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وحَدَّثُوهُ الحَدِيثَ، فَقالَ: «مِن أيِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ؟» فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ ‍ هَذا كانَ أشَدَّ الرَّجُلَيْنِ اجْتِهادًا، ثُمَّ اسْتُشْهِدَ، ودَخَلَ هَذا الآخِرُ الجَنَّةَ قَبْلَهُ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ألَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذا بَعْدَهُ سَنَةً؟» قالُوا: بَلى، قالَ: «وأدْرَكَ رَمَضانَ فَصامَ، وصَلّى كَذا وكَذا مِن سَجْدَةٍ فِي السَّنَةِ؟» قالُوا: بَلى، قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فَما بَيْنَهُما أبْعَدُ مِمّا بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ».

    رواه الإمام ابن ماجه وصححه الشيخ الألباني رحمهما الله

    Liked by 2 people

  2. الإبن الدكتور عبدالله
    لقد تعرضت في هذه المدونة إلى موضوع جدير بالعناية والدراسة وهو إدراك شهر رمضان المبارك والتقرب فيه إلى الله بالذكر وقراءة القرآن والعناية بالصيام وأحواله
    ومما لاشك فيه أن العبادات عمومًا والصيام خصوصًا ليست سوى إختبار للعباد فيما يتعلق بالمناسك واتباع الأوامر واجتناب المنهي عنه
    ونحن كبشر يمكن أن نقع في الخطأ فنفشل في الإختبار وإما أن نوفق فيكتب لنا الفلاح والنجاح
    المشكلة اننا لا ندرك معاني العبادات ومنها الصيام فنحن نصلي لمجرد الصلاة ونصوم كذلك
    وقد غلبت العادات العبادات حتى أضحت تلك العبادات ليست سوى طقوس توارثها الأجيال جيلًا بعد آخر
    أن تستشعر المعاني العظيمة للصيام يتطلب منا التجرد لله بالطاعة أولا ثم مجاهدة النفس ثم إستحضار معنى الصيام وما يدخره الله للصائمين من أجور عظيمة لا يعلمها إلا الله
    أن تدرك شهر الصيام وانت في صحة وعافية وأمن وأمان فهذه من النعم التي تعين على الصيام
    وعوضًا عن الإستعداد لرمضان بالأغذية علينا أن نستبشر بقدوم الشهر عقلًا ووعيًا وفرحًا وسرورًا حتى نكون في ركاب الفائزين

    Liked by 2 people

    1. حياك الله يا عم شاهر، نعم أوافقك، (المشكلة اننا لا ندرك معاني العبادات ومنها الصيام فنحن نصلي لمجرد الصلاة ونصوم كذلك)، وللأسف بتنا نرى كثيرا من الطقوس التي تسبق رمضان لكنها تلهي حقيقة عن الاستعداد له👍

      إعجاب

  3. شكر الله لكم أخي على هذه الكلمات النيرات
    وأقترح عليكم في مدونتكم الحديث عن الاستبصار بالقرآن فكل آية فيها بصيرة لهذه النفس البشرية…نحن بحاجة إلى أن نقرأ كتاب الله لنبدد ظلام الشهوات والشبهات ظلام الدنيا وزينتها ظلام الاعلام الذي سحرنا فوضع لنا حجب واهية حتى صرنا لا نرى بنور القرآن.
    .
    .
    فريد الأنصاري له باع طويل في تدبر القرآن والاستبصار بآياته ويأتي بمعان مطربة حري بنا أن ننهل من علمه وتدبره فقد عاش مع وبالقرآن رحمه الله فلو تفكرنا في دواء نفوسنا واستبصارها بالقرآن وتواصينا بنتاج الشيخ فريد فخيرا نحصل بإذن الله.
    والسلام عليكم ورحمة الله

    Liked by 1 person

  4. تدوينة رائعة لتذكيرنا بأهمية رمضان وإدراكه واستغلاله بشتى الطرق الممكنة ، اللهم بلغنا رمضان لا فاقدين ولا مفقودين 🤍

    Liked by 1 person

  5. شكرا لك اخي، كلام مؤثر ومحمس للإجتهاد في هذا الشهر العظيم،كلما اقرا تدوينة عن هذا الموضوع أشعر بقشعريرة في جسدي، اللهم بلّغنا رمضان وأرزقنا حسن صيامه، وفي تدوينتي المتواضعة تكلمت عن إستغلال شهررمضان https://tinyurl.com/5n6vb387

    Liked by 1 person

  6. جزاك الله خير على هذا الإبداع المتجدد،

    بالتأكيد أن شهر رمضان من أكثر الفرص للعبد للتقرب لله سبحانه وتعالى، ففيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر -مايعادل تقريباً ٨٥ سنة، وكم من شخص يحزن على تقصيره في هذا الشهر بعد نهايته!
    قال الله في الحديث القدسي: ” كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به”. فعلينا أن نقف عند هذا الحديث ونتفكر في معانيه العظيمة.
    فاللهم أعنا ذكرك في شهرك الفضيل.

    Liked by 1 person

  7. “دائمًا ما يأتي رمضان في موعده المناسب تمامًا، والمناسب هنا ليس من حيث التوقيت لا، بل من حيث الظروف وصعوبات الحياة، يأتي رمضان دائمًا بعد موسم من التعب والإرهاق، يأتي ليبدل الحزن بالفرح، والألم بالأمل، والتعاسة بالسعادة، يأتي لينتشلنا من مشاكلنا النفسية ومن ضعوطات الحياة، ويعيد بناءنا بعدما هدمتنا الهموم، فاللهم لا تحرمنا، اللهم بلغنا رمضان لا فاقدين ولا مفقودين.”

    إعجاب

أضف تعليق