
بسم الله، مرحبا أيها المتفكرون، بعد أسابيعَ قليلة أُتمُّ عامي السادس والثلاثين، أي أنني عشت في هذا الكوكب العجيب أكثر من ثلث قرن، وبالتالي أعتقد أن من حقي أن أَضَعَ قَدَماً على قدم وأتحدث للبشرية عن آرائي في الكون والحياة 😬
كما أن الإنسان تتغير ملامحه الخارجية كلما تقدم في العمر فكذلك دواخله! سواء كان ذلك التغيّر إيجابيا أم سلبيا، وتبرز هذه التغيرات وتعظم كلما زاد عدد السنين، على أية حال، سأدون في السطور التالية بعضا من أهم التغيرات التي طرأت على متفكر بين سنوات العشرين وسنوات الثلاثين، ومن يدري، لعل الله أن يمد في العمر والعمل بحيث يأتي اليوم الذي أدون فيه تدوينة (بين الثلاثينات والأربعينات)!، وإذاً فهيا بنا إلى سياحة عقلية داخل أعماقي.
التغير الأول: لم أعد أنبهر بالذكاء: في العشرينات كنت أنبهر برؤية الأشخاص الأذكياء وأتلهف لسماع أخبارهم. الآن تغيَّر الوضع، تنبهت إلى أن زعماء كبرى العصابات في العالم هم أناس على درجة عالية من العبقرية، وأن أبرز المُنظِّرين لكافة الانحرافات الفكرية هم أناس فائقوا الذكاء، هكذا عرفت أن العنصر الأساسي في المعادلة ليس هو الذكاء، بل الهداية!، الهداية والثبات عليها هي ما يستحق أن يثير الانتباه والإعجاب! وقد قابلت في حياتي الشخصية مجرما خطيرا جدا، وأشك في أنه مسلم أصلا، هذا المجرم كان شديد الذكاء، فكان ذا قدرة مبهرة على تبرير وشرعنة كل جرائمه وانحرافاته، حتى إنه استحل بعض المحرمات المعلومة من الدين بضرورة، وكان يستخرج ألف حجة وحجة على استحلالها، فصار ذكاؤه وبالاً عليه- نسأل الله العافية-، فالخلاصة: ركز على سؤال الله الهداية، فإنك إن أعطيتها فستصل بها إلى كافة مطالبك، سواء كنت ذكيا أم لا، وما قيمة الذكاء إذا كان سببا في مزيد من الغوص في دركات جهنم!
التغير الثاني: أمي وأبي: في العشرينات كنت أدرك قيمة والديّ من حيث أمرُ الشارع وتعظيمُه لحقهما، لكني بعد الزواج والإنجاب، تحول هذا الأمر من كونه شيئا نظريا في العقل إلى شيء تشربه قلبي وامتلأ به كياني ولله الحمد، أرى كيف يتعكّر نوم زوجي الليالي الطوال بسبب مرض ابني فأفكر في نفسي وأقول: هكذا كانت أمك تفعل بك يا عبدالله! وإذا كانت حالته طارئة فأضطر للقيام من سريري في ساعة متأخرة من الليل قلِقا ومتكدِّرا ومرهقا حتى نطئمن عليه في المستشفى، فحينذاك أستذكر والدي رحمه الله حين كان يذهب بي في أنصاف الليالي بسبب نوبات الربو المزمن😢، ولا زالت قيمة والديّ تعظم في قلبي كلما تقدم بي العمر وعاينت صعوبة التربية.
التغير الثالث: كلما كان واثقا أكثر، كلما كان جاهلا أكثر: في بداية العشرينات، كنت أنزعج أحيانا إذا سمعت عالما في برنامج إفتاء يقول: ينبغي أو لا ينبغي أن يفعل كذا!، وذلك لأني أريد جوابا أكثر دقة! هل هو مكروه أو محرم بالضبط؟ لاحقا اكتشفت صعوبة الوصول إلى القطع واليقين في كثير من المسائل، وأن لكل علم مناهجه الصارمة والدقيقة في الوصول إلى الحقيقة، وبالتالي انتبهت إن أن أهل العلم الغوّاصين في أي تخصص يتحرّون في ألفاظهم، وأستذكر في هذا المقام أن الإمام الشاطبي عندما تكلم في الموافقات عن أسباب انتسابه إلى الإمام مالك أشار- بإعجاب- إلى كثرة المسائل التي كان يتوقّف فيها الإمام- دلالة على سعة علمه ورحابة عقله-، وعندنا في المكتبات رسالة دكتوراه ضخمة عن المسائل التي توقف فيها الإمام أحمد!، هذا وهم يتكلمون في تخصصهم الذي أفنوا أعمارهم فيه! فكيف بالحمقى الذين يستحلون الكلام بثقة ويقين في أي شيء في الحياة لمجرد أنهم قرؤوا عنه كتابا أو كتابين أو شاهدوا مقطعا أو مقطعين في اليوتيوب! فالحاصل أن التروي والتريث في إطلاق الأحكام صار علامة عندي على النضح العلمي، أما الذي يطلق الأحكام في كل شيء يعرض عليه لا سيما فيما خرج عن تخصصه ويتحدث بثقة وطلاقة فهذا جاهل على الأغلب، ولا ينفي كلامي السابق وجود محكمات وقطعيات في كل علم من العلوم.
التغير الرابع: هناك أمور لا تكتسب بمجرد القراءة!: في العشرينات كنت أظن أنه ليس بيني وبين اكتساب الفضائل والمكاسب العظيمة في حياتي سوى أن أقرأ وأتعلم ثم أنفّذ، حسنا لقد كان هذا وهما كبيرا، لاحقا تدرك أن هناك بعض الأمور لو قرأت عنها ألف كتاب فلن تدركها تمام الإدراك إلا لو جربتها بنفسك، اقرأ ما شئت عن الاكتئاب أو الأمراض الروحية كالسحر والعين ونحوها، فلن تستطيع أن تتصوّرها على حقيقتها طالما أنك لم تخض فيها- عافانا الله وإياكم- إن الحياة أعقد بكثير من أن يتم اختزال قضاياها في كتاب تقرأه، ولا أقصد هنا التقليل من شأن القراءة، إنما أقصد وضعها في حجمها اللائق بها وعدم تحميلها فوق طاقتها، وإنا لنجد أن سبب إبداع العديد من المبدعين هو التجارب التي خاضوها وليس مجرد الكتب التي قرأوها، كان دوستويفسكي مبدعا في أدب المعاناة والفقر والبؤس، لأنه عاش فقرا مدقعا بكل بساطة! (وقد قرأت في مجموع رسائله رسالة يشرح فيها ويبرر لوالده سبب استعماله بعضا من المصروف في شراء الشاي وأن ذلك ليس سفها منه وإنما هو من ضرورة العيش في الصقيع الذي كان يحيا فيه)!ولعله يدخل في هذا الباب ما أمرت به الشريعة أتباعها من الصوم الواجب والمستحب، الذي يعطي صاحبه تجربة مبسطة عن حياة الفقير، ولذلك يسيء بعض المثقفين لأنفسهم عندما يظنون أن قراءة بعض الكتب عن شيء ما يبيح لهم أن يمطروا الناس بنصائحهم التي كثيرا ما تكشف عن جهل مفضوح بحقيقة ما قرأوا عنه! (واضح من المقال أني أحب المثقفين جدا😉)
التغير الخامس: ليس كل ما نريده يأتي بالتخطيط: في العشرينات كنت أركز على التخطيط والهندسة الدقيقة لكل شيء أريد اكتسابه، لاحقا اكتشفت أن مجموعة كبرى من مكاسبي وخبراتي في الحياة لم تأت عن طريق التخطيط، بل جاءتني بدون تخطيط، بل بعضها جاءني عقب تجارب وأسباب كريهة لم أكن لأخوضها لو كان الأمر بيدي، هكذا عرفت أن حاجتي لتفويض أموري لله واستهداءه في كل شيء هو أولى بالتركيز وبذل الجهد من محاولة التخطيط لكل صغيرة وكبيرة، ولا يقولن لي قائل: بل نجمع بين هذا وهذا! فللنفس طاقة معينة يحتاج المرء أن يعرف كيف ينفقها، وقد أشار ابن القيم في المدارج عند كلامه عن منزلة التوكل إلى هذه القضية فقال: وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُتَوَكِّلِينَ يَكُونُ مَغْبُونًا فِي تَوَكُّلِهِ. وَقَدْ تَوَكَّلَ حَقِيقَةَ التَّوَكُّلِ وَهُوَ مَغْبُونٌ. كَمَنْ صَرَفَ تَوَكُّلَهُ إِلَى حَاجَةٍ جُزْئِيَّةٍ اسْتَفْرَغَ فِيهَا قُوَّةَ تَوَكُّلِهِ. وَيُمْكِنُهُ نَيْلُهَا بِأَيْسَرِ شَيْءٍ، وَتَفْرِيغُ قَلْبِهِ لِلتَّوَكُّلِ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ، وَنُصْرَةِ الدِّينِ، وَالتَّأْثِيرِ فِي الْعَالَمِ خَيْرًا. فَهَذَا تَوَكُّلُ الْعَاجِزِ الْقَاصِرِ الْهِمَّةِ. كَمَا يَصْرِفُ بَعْضُهُمْ هِمَّتَهُ وَتَوَكُّلَهُ، وَدُعَاءَهُ إِلَى وَجَعٍ يُمْكِنُ مُدَاوَاتُهُ بِأَدْنَى شَيْءٍ، أَوْ جُوعٍ يُمْكِنُ زَوَالُهُ بِنِصْفِ رَغِيفٍ، أَوْ نِصْفِ دِرْهَمٍ، وَيَدَعُ صَرْفَهُ إِلَى نُصْرَةِ الدِّينِ، وَقَمْعِ الْمُبْتَدِعِينَ، وَزِيَادَةِ الْإِيمَانِ، وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وأظن أن هذه الإشكالية تندرج تحت إشكالية التركيز على بذل الأسباب أكثر من التركيز على التوكل على الله، وهي من نتاج كتب تطوير الذات التي مُطرنا بها في هذا العصر، وأظن حصافة القارئ تدرك أني لا أقصد مما سبق ترك التخطيط بالكلية!.
التغير السادس: أهمية طبخ العلم واستثماره: في العشرينات كانت همتي منصرفة إلى جمع المسائل والمعارف والاستزادة منها قدر المستطاع، لاحقا أدركت أن هناك شيئا آخر لا يقل أهمية، ألا وهو معرفة كيفية طبخ هذه المعلومات في العقل والمزج بينها والخروج منها بنتائج جديدة ومحاولة توظيفها في سياقات أخرى…إلخ، وأدركت أن هذه سمة مشتركة عند جميع من برز في تخصصه! لا بد من أوقات تتوقف فيها عن القراءة وتوجه همتك للتفكر فيما قرأت وتقليب النظر فيه من شتى الزوايا، ومن مقولات الإمام الشافعي: ليس العلم ما حُفِظ، إنما العلم ما نفع، ومن الطريف أن أذكر هنا أنني لم أكن لأدرك هذا المعنى لولا تعرضي لتوقف اضطراري عن تحصيل العلم بالطريقة التي أسلفت ذكرها، فلم يكن لي بد من ممارسة التفكر والتأمل، وعندها أدركت أهميته وأثره!
التغير السابع: جرّب ولا تنفق الكثير من وقتك في التفكير: في العشرينات كنت لا أخوض أي تجربة جديدة حتى أحرثها فكرا وأقتنع بها تماما وأدرس كل احتمالاتها قبل الشروع بها، وذلك لأني إنسان حذر بطبعه ويخشى من فكرة الفشل، لاحقا أدركت أن القناعة المسبقة ليست شرطا في كل شيء، وأن بعض الأمور يحتاج الإنسان أن يجربها بنفسه حتى يكوّن فكرته عنها، طبعا الأمر يحتاج لموازنة ودقة، فبعض التجارب قد تكون تكلفتها مرتفعة أو مخاطرتها عالية، لكن كلامي عن التجارب التي لن تضر إذا لم تنفع أو التي يكون ضررها محدودا، وربما يكون أقرب مثال نافع هنا هو المدونة، فإني حين طَرَأتْ عليَّ فكرتُها لم أكن مقتنعا بالفكرة لأسباب لا يتسع المقام لشرحها، لكن الله شرح صدري للتجربة، وحمدت العاقبة وها أنا مسرور بالثرثرة على رؤوسكم!
همممم، في الحقيقة هناك بعض التغيرات أيضا لكن المقال قد استوفى طوله الافتراضي.
أخيرا: ماذا عنكم، هل تذكرتم أثناء قراءتكم للمقال بعضا من الأشياء في دواخلكم تغيرت خلال العِقد الأخير، شاركوني وشاركوا القراء بها؟
رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker
تأملات عميقة وتغيرات حقيقية.. ربما يتغير وقت التغيرات قليلاً وفقاً للاشخاص وطبيعتهم لكنها تظل نقاط تدعو للتأمل
إعجابإعجاب
مرحبا مصطفى وشكرا على مرورك
إعجابإعجاب