
بسم الله، سبق أن أخبرت معاشر المتفكرين هنا https://t.me/mutafakker أني بصدد عمل حوار مع السيدة الوالدة، وقد كان، غير أن هذا الحوار ينقسم إلى قسمين، قسم يحوي أسئلتي الشخصية لأمي، وقسم يحوي أسئلتكم، ولقد رأيت بعد تفريغ الحوار أنه سيكون متجاوزا للطول الافتراضي لتدويناتي، فقررت الاكتفاء اليوم بنشر الشطر الأول، وهو خلاصة ما قصَّتْه عليَّ أمي من تفاصيل كنت أود معرفتها عنها- وقد اكتشفت أني أجهل عنها أشياء كثيرة- وأما أسئلتكم فسأقوم بنشرها في الجزء الثاني من التدوينة بإذن الله.
شيء من عبير أمي:
وُلدت هذه الفتاة في (أنقرة) عاصمة تركيا، وترعرعت فيها ودرست حتى بلغت الصف الأول الثانوي، وهي إذ ذاك في عامها الخامس عشر تقريبا، ثم قدمت إلى السعودية وهي تحمل سجلا دراسيا فائقا، لكنها فوجئت بعدم قدرتها على إكمال دراستها (ربما لم يكن نظام المدارس الأجنبية موجودا إذ ذاك) ناهيك عن أميتها التامة في اللغة العربية، كانت راغبة في مواصلة التعلم ورفضت الاستسلام هي وأمها- أما أبوها فقد توفي قبل ذلك بسنوات وهي طفلة-، حتى وجدت بعد ذلك حلا صعبا، ألا وهو مدارس محو الأمية، فانخرطت فيها لتجد نفسها تبدأ الدراسة من جديد في الصف الأول ابتدائي 😓 وفي فصل يحوي أخلاطا متنوعة من النساء أغلبهن كبيرات في السن، كان مشوارا شاقا عليها بسبب انعدام اللغة عندها، وكان يفيض بها الكيل أحيانا فتجهش بالبكاء من شعورها بالعجز، ومن تقلبها بين شتى النساء حولها تسألهن عن معنى هذه الكلمة أو تلك، لكنها استمرت…
أنهت الدراسة الابتدائية بنظام القفز في غضون ثلاث سنوات، وبين الابتدائي والمتوسط تزوجها فارس الأحلام (الذي هو أبي رحمه الله) وهي في الثامنة عشر تقريبا، بعد ذلك عادت لإكمال مشوارها الدراسي في مرحلة المتوسطة بدعم من الوالد، فأنهت المتوسطة وبعد إكمال الصف الأول ثانوي أتاها المولود الأول (محمد) فقررت أن تكمل الصف الثاني والثالث ثانوي بنظام المنازل، بعد محمد بسنتين انضمت (صفاء) ثم (عبدالله)، هكذا قررت بعد إكمال الثانوية أن تتوقف لالتقاط الأنفاس ريثما يكبر هؤلاء الأطفال الثلاثة قليلا..
ثم لما سنحت الفرصة لإكمال الدراسة الجامعية عادت مرة أخرى، واختارت تخصص التربية الفنية لاعتقادها أنه تخصص لن يشغلها عن تربية أولادها، وسيكون بإمكانها أداء تكليفاتها وواجباتها وأطفالها بجانبها، أي أن أمي كانت تدرس البكالوريوس وهي أم لثلاثة من الاولاد، وتخرجت وقد انضم الرابع إليهم (أحمد)، والذي كانت حاملا به في السنة الأخيرة من البكالوريوس، فكانت ترقى الأداور الثلاثة لمبنى التربية الفنية القديم وهي حامل به في بطنها وتحمل في نفس الوقت أدوات الفنية ومستلزماتها، وكن بعض زميلاتها يشفقن عليها فيساعدنها في حمل هذه الأدوات، وفي ذهني ذكريات ضبابية عن بعض المشاوير التي كان يصحبني فيها الوالد لنقوم بإرجاع أمي من الجامعة، لا أذكر من هذه المشاوير سوى سيارة رياضية حمراء رائقة للغاية كنت أراها تنتظر مثلنا عند الجامعة!
أنهت الوالدة الدراسة بتفوق، بنسبة كانت تنيف على 97%، وكانت تشكر لوالدي رحمه الله تشجيعه لها ودعمه طوال هذه المسيرة الدراسية الحافلة، وبعد التخرج قررت البقاء في البيت والاكتفاء، لقد كان كل خروج من البيت يستلزم مني ترك أطفالي في البيت-تقول لي- وهو أمر غير هين بالنسبة لي، هكذا عدلت الوالدة عن فكرة الوظيفة مقررة التركيز على هذه الكائنات الطفيلية (محمد وصفاء وعبدالله وأحمد)
بعض أعمالها الفنية:


مرت السنون، وبعد انتقالها إلى البيت الجديد الذي بناه ياسين لها ولأولادها، سمع الوالد بافتتاح دار تحفيظ نسائية في الحي، وزف لها هذه البشارة، وأشار عليها بالذهاب، فشرح الله صدرها للذهاب بابنتها صفاء- وصفو في المتوسطة حينها- إلى هذه الدار كي تنخرط في حلق القرآن كما فعل بقية الأولاد، وحيث إنها فتاة، ووحيدة أبيها وأمها، فلقد أبت عليها نفسها أن تتركها تذهب بمفردها سيرا على الأقدام، فصارت تصطحبها إلى التحفيظ، ولتقوم أيضا بمراجعة بعض الأجزاء التي حفظتها في الجامعة، وها هنا تتجلى صورة رائعة من لطف الله بعباده، حيث وجدت نفسها قد وقعت في سحر القرآن وتأثيره، فبدأت مشوارها مع كتاب الله، وبعد انتهاءها من حفظ الجزء الخامس، حملت بآخر الأولاد (كمال) فاضطرت للتوقف ردحا من الزمن، حتى إذا انتهت من الحمل ولواحقه عادت إلى التحفيظ، فلم تمض عليها السنوات إلا ووجدت نفسها قد حفظت القرآن كاملا وهي في هذه السن المتقدمة، لم يكن هدفها عند اصطحابها لبنتها أن تحفظ القرآن، ولم تجعله هدفا عندما بدأت في حفظه (صورة مع التحية للمبالغين في أهمية التخطيط)، ولقد تحول القرآن بعد ذلك إلى أنيس وصاحب لها، وغطّى عليها الأفق، فصار لياذها وملاذها، حتى عندما توفي زوجها فجأة قبل سنوات في فاجعة قاصمة، كان الناس ينظرون إلى ثباتها- تبارك الرحمن- ويتعجبون، وما علموا أنها ما إن كانت تأتيها الفرصة حتى كانت تهرع إلى جليسها (القرآن) وتظل تناجيه وتسامره فتنصب عليها السكينة من السماء كالمطر، ونسأل الله أن يكون شفيعها كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: (الصيامُ والقرآنُ يَشْفَعانِ للعبدِ، يقولُ الصيامُ : أَيْ رَبِّ ! إني مَنَعْتُهُ الطعامَ والشهواتِ بالنهارِ، فشَفِّعْنِي فيه، ويقولُ القرآنُ : مَنَعْتُهُ النومَ بالليلِ، فشَفِّعْنِي فيه ؛ فيَشْفَعَانِ).
هي الآن أم لفيلق يتكون من خمسة جنود، منهم الأستاذ الجامعي، ومنهم المهندس، ومنهم المحامي، ومنهم اختصاصية تغذية وخبيرة في صناعة وتجارة الكيك، وهم الآن يشعرون بالامتنان لله لكونها أمهم، ويرجون عفوها عن أي قصور منهم في حقها، ويسألون الله أن يعينهم على برها، وقد أسميت بنتي الثانية على اسمها (الثريا) عسى أن تنال شيئا من خصال جدتها الفذة- تبارك الله- والثريا اسم في اللغة لمجموعة نجوم في السماء.
حسنا أيها الأحبة، هذه هي المرأة التي طرحت عليها أسئلتكم فأجابتني، ولا بأس عندي الآن بنشر سؤال واحد من الأسئلة كنوع من التشويقة لكم وسأنشر الباقي في التدوينة القادمة بإذن الله:
ربى تسأل: ما نظرتك لزوجات أولادك، وما أسباب اضطراب العلاقة بين الحموات وحريم الأولاد؟
أعتبرهن بمثابة بناتي، فما أريده لبنتي أريده لهذه المرأة التي جاءت من بيت أهلها واختارت أن تكون زوجة لابني، وكما أني تعبت في تحمل مسؤوليات بيتي وزوجي وشعرت بالحاجة للمساندة، فهن كذلك يمررن بنفس الشعور، الناس ليسوا محتاجين إلى طعام وشراب، لكنهم يحتاجون إلى معاملة طيبة، لقد مررت بذات المرحلة وأعي جيدا مدى حاجة المرأة إلى حسن المعاملة، وكيف تؤثر عليها الكلمة السيئة وتكسر أجنحتها، فكنت دائما أقول لنفسي أن ما مررت به في الحياة من مواقف سيئة لن تتكرر مع نساء أولادي.
بالنسبة للأسباب فهي الجهل ونقص العلم، وعدم الخوف من الله، والإنسان يخشى إذا تعامل مع أحد بسوء أن يرى ذلك في بناته ومن يعز عليه، فالجزاء من جنس العمل، وهذا النوع من الديون يرد بسرعة فيما نراه فيما حولنا.
بهذا ننتهي من الجزء الأول من الموضوع، أسأل الله أن يحفظها لها ولإخواني، وأن يحفظ لكم والديكم ويمتعكم بهم، وإلى اللقاء.
لقرءاة المزيد عن أمي اقرأ يا صاحبة الجلالة
لقراءة المزيد عن أبي اقرأ شيء من إرث ياسين
رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker
مساء الخير يامتفكر ويا أُمه الأنيسة ، في حين أنني انشغلت ولم أعُد اجد الوقت الكافي لقراءة المدونات في الفترة الأخيرة إلا أنني اشتقت لقراءتها وللاستمتاع بها نشكر من كانت السبب في استعادتي لشغف قراءة هذه المدونات الجميلة ولصبرها وكفاحها في هذه الحياة القاسية ونحمد الله أن عوضها بخمسٍ من الجنود الاقوياء الذين تفخر وتعتز بهم ، كم هو جميل اسم الثريا ففيه من الرقة مالا يُمكن وصفه وبالتأكيد نالت حصةً وافية من رقة الاسم وحفيدتها كذلك حفظهما الله لكم وحفظ امهاتنا ورحم من توفى منهن 🤍
إعجابإعجاب
أهلا ريناد،
اللهم آمين وجميع أمهات القارئين والمسلمين يارب
إعجابإعجاب
لم أذكُر يومًا اني تشوّقتُ للقراءة كما تشوّقت لقراءة هذه التدوينة و أتطلّع لجُزئها الثاني
حفِظ الله أمهاتنا و آبائنا و غفرَ لمن توسّدُ الثرى مِنهم .
إعجابإعجاب
آمين وإياك أخي،
أشكر لك هذا التشجيع
إعجابإعجاب
فخامة العنوان تكفي
إعجابإعجاب
ما شاء الله تبارك الله، حفظ الله لكم والدتكم.
حينما كان صراع الأولويات إختارت الخيار الصعب ورزقها الله سبحانه بنجاح أبناءها، نسأل الله أن يقر عينها ببرهم لها.
إعجابإعجاب
آمين وإياك أحمد، والله يعيننا على صراع الأولويات
إعجابإعجاب