اختطاف الحب

بسم الله، تكلمت في أول تدوينة نَقَرَتْها أصابعي ها هنا عن جريمة اختطاف الجمال، وحان الوقت الآن لتناول جريمة إنسانية أخرى تتم ممارستها على مرأى ومسمع من مليارات البشر؛ إنها جريمة اختطاف الحب!

تخيل عزيزي المتفكر أن يتم قصر لفظة الطعام والشراب على صنف أو صنفين من المطعومات وتُسحب صفة المطعومية من سائر المأكولات الأخرى وينحصر لفظ الطعام في نوع معين من الإيدامات أو الساندوتشات على سبيل المثال!، ناهيك عن أن يكون هذا الصنف الذي حصرنا لفظة الطعام فيه رديئا أو غير صحي في ذاته! هذا ما نعيشه حاليا مع مفهوم الحب للأسف!

(اختطاف الحب) جريمة متنوعة ومعقدة، وسأحاول تفكيك هذا التنوع معكم…

من أوجه هذه الجريمة أن كثيرا من صناع الترفيه دائما ما يصوّرون الحب بما يحصل بين الذكر والأنثى في بداية العلاقة بينهما من إعجاب متبادل بالمظهر الخارجي أواللباقة في الكلام، إنهم يبرزون للقارئ أو المشاهد ذروة الحب في سهرة باذخة على أضواء الشموع في ذلك المطعم، أو في رسالة حب متهدّجة مليئة بالتنهّدات إلى آخره وفقط. النتيجة السخيفة لهذا أن عندنا أجيالا من البشر صاروا ينفرون من الزواج لشعورهم باضمحلال هذه الأشياء بعد الزواج وبالتالي اضمحلال الحب معها، العالم مليء بالحمقى الذين لا يستشعرون الحب الذي ينبعث من مشهد زوج يعود إلى البيت بعد نهار كامل قضاه كادحا من أجل دوافع في مقدمتها أن تعيش أنثاه في كنفه عزيزة مصونة عن ذل الاحتياج لأحد، ولا يحسون بالحب في مشهد زوجة عرفت عيوب زوجها عيبا عيبا فاختارت أن تتعايش معها لأنها وجدت فيه الرجولة الحقة والأمان العميق رغم كل ذلك، بل وربما أحبت عيوبه حتى، إن الحب الذي لا يحتوي على إدراك لعيوب الطرف الآخر وصبر عليها ليس حبا على الحقيقة، كذلك الحب الذي لا يتضمن تضحية والتزاما بمواجهة مشاق الحياة والتعاون على الصمود أمام أمواجها الجارفة للطرفين ليس حبا على الحقيقة بل هو ثرثرة جوفاء ودعاوى فارغة من أطراف تبحث عن التسلية أو الشهوة أو ملء فراغها العاطفي لا أكثر.

أما هذه الانفعالات في بداية العلاقة فلا تسمى حبا، بل هي بدايات الحب والخطوات الأولى إليه، سمِّها إعجاباً، سمها مَيلْاً، وإن شئت فسمِّها الاستحسان كما عبر عنها ابن القيم رحمه الله في روضة المحبين، (وهو كتاب ماتع ونافع ويبيّن عبقرية أهل العلم في هذه القضايا الإنسانية)، أو سمها حبا ولكن لا تختزل الحب فيها بحيث يصير مبتدأ الحب ومنتهاه هو مجرد كلمات معسولة ونظرات مأسورة، خاصة أنتن أيها الفتيات😡

ومن أوجه جريمة اختطاف الحب أنهم ربطوا بين مفهومين منفصلين، ألا وهما الحب والجمال، فهم يعرضون الرجل الوسيم أو المرأة الحسناء، على أنها تسلب الألباب وتخطف القلوب وأنها حبيبة الملايين، وفي اعتقادي أنها تسلب اشتهاء الملايين في الغالب وليس عواطفهم، وكثيرا ما تكون الفاتنة سيئة المعشر، مغرورة بما عندها من جمال، ويطغى عليها شعور الاستحقاق لكل خير، وما أكثر ما نسمع عن قضايا الطلاق والانفصال عن هذه الفئة من الناس، والنتيجة السخيفة لهذا الربط أن الفتاة التي تتعرض لهذه المنتجات الترفيهية من صغرها إذا لم تكن جميلة، فإنه قد يطغى عليها شعور التعاسة لأنها تعتقد أن الحب إنما هو للجميلات، لأنها شاهدت 999 قصة حب ملتهبة كان أبطالها على الدوام رجال وسيمون ونساء جميلات!

ومن أوجه هذه الجريمة أنهم يوهمون القارئ أو المشاهد بأن الحب التام يعني حياة بلا مشاكل، وهذا معنى خيالي لايمت بصلة لدنيا الكبد التي خلقنا الله داخلها، وهذا ما يفسر سرعة الطلاق في بدايات كثير من الزواجات، إنهم يشعرون بعد شجارين أو ثلاثة أنهم غير سعداء وأن الحب قد طار وحلّق بعيدا، عندنا أجيال تؤمن أن أجمل فترات الزواج هي فترة البداية، التي تكون مليئة بالتصنّع والمجاملات، والتي لم تخض أي اختبار حقيقي في الحياة سوى أن يقوم فيها الزوج بفتح باب السيارة لزوجته أو يتفكك فيها حبل الحذاء فينحني فيها لربط الحبل! من وجهة نظري فإن الحب الحقيقي هو الذي يتكون رويدا رويدا مع كل عقبة وكل عثرة تعرض للزوجين، الأمر يشبه عضلة الساعد أو الفخذ، كلما عرّضْتها لصعوبات التمارين واستمررت لذلك فترة طويلة كلما قويت وتضخمت، ولذلك إذا قارنت بين زوجين شابين متحابين، وزوجين عجوزين متحابين، وجرّدت بقية العوامل الأخرى فكثيرا ما تجد حب العجوزين أوثق! زوج عمتي رجل طاعن في السن، ممدد على سريره طيلة الوقت، لا يتكلم، ولا يتحرك، قد ابتلاه الله في صحته بلاء عظيما يدل على مكانته عند الله- نحسبه والله حسيبه-، وهي ترعاه على هذا الحال كأنه طفل صغير، لو رأيتم الحب في عينيها حين تتكلم عنه، ولو سمعتم الحنان في صوتها وهي تناجيه، ولو شعرتم بالإخلاص حين تقوم على كافة شؤونه، لذهبتم من فوركم ساجدين قائلين يا ألله ارزقنا زوجة مثل عمة عبدالله (قولوا ما شاء الله عليها😉) هل هذه العلاقة نزلت من السماء هكذا؟ أم أنها تعرضت لصنوف من المخاضات في عشرات السنين حتى تشكلت بهذا الشكل!

ومن ذلك أنهم يزينون للإنسان صورة الحب المتطرف المندفع لأقصى غايات التطرف، الذي لا ينفك فيه المحب عن التفكير في محبوبه، وهو في حقيقته بؤس ونوع من العذاب يقع للإنسان والأولى له أن يستعيذ بالله منه لا أن يطمع فيه، لأنه أسوأ من العبودية، ولأنه ينتزع الإنسان انتزاعا من سائر مباهج الحياة الأخرى ويحرمه لذتها، ولا أظن عاقلا من عقلاء البشر يتمنى أن يقع في هذا النوع من الحب.

ومن ذلك أنهم جعلوا الحب عملية بشرية ١٠٠٪؜ وذلك تأثرا بالحضارة المادية، وفصلوه عن الاستعانة بالله والتوكل عليه في إيجاد هذا الحب أولا وفي تنميته والحفاظ عليه ثانيا، والحقيقة أنه من أولى الأمور باللجوء إلى الله، وذلك لعظيم أثره في حياة الإنسان، واقرأ تدوينتي: (حب قُضيَ في السماء)

ومن ذلك أنهم يعلقون حصول السعادة بالحب، بحيث يتصور الإنسان أنه لو ظفر وتزوج بمن يحبها فسيسعد أبد الدهر، وهذا تحميل للحب فوق طاقته، وأعداد الذين ظفروا بحب حياتهم ثم تغيرت أحوالهم إلى شقوة أو كره أو ذوى الحب في ذاته أو عاشوا حياة تعيسة رغم الحب أكثر من أن تحصى، فرفقا بالحب أيها السادة!

ثم إنهم كثيرا ما يستخدمون الحب كحصان طروادة لانتقاص أحكام الشرع ونبزها، فيقومون بإلهاب عواطف القارئ أو المشاهد بقصة حب عنيفة بين نصراني ومسلمة، أو بين مسلم وهندوسية مثلا، وكيف أن المجتمع حارب هذا الحب المسكين الهادئ الوديع، فيخرج المشاهد وفي نفسه غضاضة على رب العالمين وأحكم الحاكمين سبحانه، وكأن الحب إله في ذاته فوق كل دين وكل اعتبار وليس طبيعة من طبائع الإنسان يجب تعبيدها لله مثل طبائعه وشهواته الأخرى كحب المال وحب الجنس وحب التقدير! وقياسا على حديث “تعس عبد الدينار” فإني أقول: “تعس عبد الحب”!

طبعا هذه الجرائم المختلفة تترتب عليها آثار وخيمة على المخدوع نفسه فضلا عن المجتمع، فإنه يظل طيلة عمره أو عمرها تلهث وراء شيء خيالي لا وجود له اسمه الحب، وتظل تتنقل بين علاقة وعلاقة آملة في الوصول إلى الصورة الغبية الوهمية التي عشعشت في عقلها من مشاهدة عشرات المسلسلات والروايات، وشخصيا أشعر أن كثيرا من تجّار هذا الحب الوهمي من المطربين والمطربات يعيشون وحيدين ولا يتمكنون من بناء أسرة مستقرة وعلاقات حب حقيقية مع أزواجهم!

فائدة: نقل عن ابن القيم في أنواع العشق، قال رحمه الله: (فَعِشْقُ النِّسَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ هُوَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ، وَهُوَ عِشْقُ امْرَأَتِهِ وَجَارِيَتِهِ، وَهَذَا الْعِشْقُ نَافِعٌ؛ فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى الْمَقَاصِدِ الَّتِي شَرَعَ اللَّهُ لَهَا النِّكَاحَ، وَأَكَفُّ لِلْبَصَرِ وَالْقَلْبِ عَنِ التَّطَلُّعِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، وَلِهَذَا يُحْمَدُ هَذَا الْعَاشِقُ عِنْدَ اللَّهِ، وَعِنْدَ النَّاسِ.

وَعِشْقٌ: هُوَ مَقْتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَبُعْدٌ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَهُوَ أَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى الْعَبْدِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَهُوَ عِشْقُ الْمُرْدَانِ، فَمَا ابْتُلِيَ بِهِ إِلَّا مَنْ سَقَطَ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ، وَطُرِدَ عَنْ بَابِهِ، وَأُبْعِدَ قَلْبُهُ عَنْهُ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْحُجُبِ الْقَاطِعَةِ عَنِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذَا سَقَطَ الْعَبْدُ مِنْ عَيْنِ اللههِ، ابْتَلَاهُ بِمَحَبَّةِ الْمُرْدَانِ، وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ الَّتِي جَلَبَتْ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ مَا جَلَبَتْ، فَمَا أُتُوا إِلَّا مِنْ هَذَا الْعِشْقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [سُورَةُ الْحِجْرِ: ٧٢] .

وَدَوَاءُ هَذَا الدَّاءِ: الِاسْتِعَانَةُ بِمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ، وَصِدْقُ اللَّجَأِ إِلَيْهِ، وَالِاشْتِغَالُ بِذِكْرِهِ، وَالتَّعْوِيضُ بِحُبِّهِ وَقُرْبِهِ، وَالتَّفَكُّرُ فِي الْأَلَمِ الَّذِي يُعْقِبُهُ هَذَا الْعِشْقُ، وَاللَّذَّةُ الَّتِي تَفُوتُهُ بِهِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَوَاتُ أَعْظَمِ مَحْبُوبٍ، وَحُصُولُ أَعْظَمِ مَكْرُوهٍ، فَإِذَا أَقْدَمَتْ نَفْسُهُ عَلَى هَذَا وَآثَرَتْهُ، فَلْيُكَبِّرْ عَلَى نَفْسِهِ تَكْبِيرَ الْجِنَازَةِ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْبَلَاءَ قَدْ أَحَاطَ بِهِ.

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْعِشْقُ الْمُبَاحُ، وَهُوَ الْوَاقِعُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، كَعِشْقِ مَنْ وُصِفَتْ لَهُ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ، أَوْ رَآهَا فَجْأَةً مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهَا، وَلَمْ يُحْدِثْ لَهُ ذَلِكَ الْعِشْقُ مَعْصِيَةً، فَهَذَا لَا يُمْلَكُ وَلَا يُعَاقَبُ، وَالْأَنْفَعُ لَهُ مُدَافَعَتُهُ، وَالِاشْتِغَالُ بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ مِنْهُ، وَيَجِبُ الْكَتْمُ وَالْعِفَّةُ وَالصَّبْرُ فِيهِ عَلَى الْبَلْوَى، فَيُثَبِّتُهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيُعَوِّضُهُ عَلَى صَبْرِهِ لِلَّهِ وَعِفَّتِهِ، وَتَرْكِهِ طَاعَةَ هَوَاهُ، وَإِيثَارِ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَهُ)، وقد ذكر بعض أهل العلم في هذا النوع مشروعية المبادرة للنكاح في هذا القسم الثالث، فإن لم يتيسر له؛ جاهد نفسه على الإقلاع عنه.

ختاما: كانت هذه بعض تفكراتي عن الحب في زماننا المعاصر، فماذا عندكم يا أصدقاء متفكر؟ شاركوني تأملاتكم في قضية الحب!

رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker


رأي واحد حول “اختطاف الحب

  1. مساء الخير يامتفكر، كثيرًا مانرى تجسيدات عدة لا تُعد ولا تُحصى للحُب سواءً كان هذا الحُب قبل الزواج او بعدَه ويكون لكلٍ سلبياته وإجابياته ، ومن وجهةِ نظري بدايةً ونهايةً كله توفيق من الله وقسمة ونصيب ثم يأتي دور طرَفا العلاقة ، لا أقول أني فهِمت وعلمتُ كل شيء خلال هذه الـ20 سنة ولكن تيقنت أن التوفيق كُله من الله ثم بقية الأمور ، ثم هُناك موضوع الجمال وقد كتبتَ فيه تدوينة رائعة لتذكيرنا بأن الجمال لا يعتمد على صفات مُعينة أو مقاييس مُحددة بل هو نسبي من شخصٍ لآخر لذا نعود ونقول بأن الاعتماد أولًا وآخرًا على توفيق الله عز وجل

    إعجاب

أضف تعليق