(مشروع العمر) بين مراد الله ومراد العبد

الحمد لله، شاع في زماننا هذا فكرة (مشروع العمر)، والتي تعني بشكل عام أن يُوجِدَ الإنسانُ لنفسه- لا سيما صاحب الهمة- طموحاً معيّناً تتمحور حوله حياتُه ويسعى لمطاردته والوصول إليه في وقتٍ ما من عمره، بحيث يترك وراءه أثرا عظيما حين يغادر هذه الدنيا.

ثم تجد في هذا السياق عشرات الأمثلة الملهِمة من الشرق والغرب لأناس تمخَّضت حيواتهم عن مشاريعَ عظيمة، وتبدأ هذه القضية في استلاب فكرك بما فيها من سحر أخّاذ ورونق وهّاج يشعرك بالأهمية والعظمة، تبدأ بعدها في تصميم ونحت مشروعك الخاص بك والمتوافق والملائم لقدراتك ومهاراتك الشخصية، ولربما استعنت في هذا المقام بكل ما تصل إليه يدك من كتب تطوير الذات ودورات مدرّبيها المتألقين.

وأنت منهمك في تصميم مشروعك الخاص لن تكون قد استوعبت- غالبا- أن مشروع العمر الذي يتكلمون عنه هو مشروع يتّصف في كثير من الأحيان بأنه شيء مادي محسوس، يراه الجميع، ملائم للغة الأرقام التي يتسم بها زمننا العجيب، وأنه إنجاز يستلزم الشهرة بشكل أو بآخر، لأنه يستقي قيمته من اعتراف المجتمع به ولو بعد حين، ولأنه مرتبط بفكرة الإصلاح والنفع المتعدي، هذه السمات لمشروع العمر لن تكون مشروحة لك بشكل واضح، ولكن لو جمعت عشرة أشخاص قد صمموا مشاريع أعمارهم فستجد مشاريع معظمهم مصطبغة بهذه الصبغة، وإن كنت شخصا متدينا فستكون حريصا على إكساب مشروع عمرك صبغة دينية معينة بحيث يكون مشروعا علميا أو دعويا أو شيئا من هذا القبيل.

ها أنت الآن قد فرغت من مرحلة الاختيار والصياغة وبدأت مرحلة السعي الحثيث نحو الهدف، وبدأ يداعب خيالَك لحظاتُ الوصول الملهِمة التي ستعيشها في يوم من الأيام بعد عشرات السنين، وبينما أنت تلتذُّ بالإنجاز تلو الإنجاز إذ برنين مفاجئ لجرس هاتفك من والدك الكبير في السن يقطع عليك نعيمك الروحي هذا!، تجيب عليه فتتفاجأ بأنه يشتهي أن يأكل على مائدة الإفطار في رمضان من الفول الذي كان يأكل منه في شبابه!، نعم إنه ذلك الفول الموجود في أعماق تلك الحارة القديمة من حواري مكة، هنا يصيبك الهم والغم! هذا (الشايب) يضيع وقتك في توافه الأمور غير عابئ بعظمتك ولا عظمة مشروع عمرك، تجاهد نفسك على الخروج في (مشوار الفول) وأنت حسير على خراب برنامجك الخاص والذي هو وسيلتك اليومية لتحقيق مشروع عمرك، وتبدأ في التفكير مع نفسك مستحضرا مقولة الشافعي الشهيرة عن البصلة وأنت تغبطه على تفهّم أهله لمشروعه الخاص وعدم تعويقهم له!

عزيزي الشاب هل وصلت إلى هذه المرحلة؟ حينئذ دعني أقل لك: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وأحياك من موتة بوصلتك الداخلية! هل تعلم ما مدى الإشكالية التي وقعت فيها حين اتخذت لنفسك مشروع عمر وهدفا خاصا بها بغض النظر عن انسجامه مع مرادات الله الشرعية منك؟

جاء في حديث ابن مسعود: سألتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم: (أي الأعمال أحبُّ إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله عز وجل) فإن كنت تفضل الإكمال في مشروع عمرك العظيم حتى في أوقات احتياج والديك فأنت مهدد بفشل المشروع الحقيقي الذي خلقك الله له؛ ألا وهو مشروع العبودية لله عز وجل، إن لم يكن مشروعك الخاص مبنيا على أساس عبوديتك لله فبئس المشروع سيكون.

حسنا، لنفترض الآن أن الموضوع ليس موضوع فول، وإنما موضوع أن أحد والديك قد بلغ من الكبر عِتيّا، وليس من أحد يرتاح له في الدنيا ويغطّي احتياجاته بشكل تام إلا أنت! ماذا ستفعل حينها بمشروع عمرك؟ هل ستبحث عن حلول بديلة لتغطية احتياج والدك والعودة لمشروع عمرك؟ أم ستؤجل مشروع عمرك مؤقتا لحين موت والدك في أقرب فرصة؟ أم ستلغي مشروع عمرك شاعرا بالحزن والأسف على الفرصة الكبرى التي خسرتها البشرية والأمة الإسلامية؟ أم ستوحِّد بين مراد الله منك الآن وبين مشروع العمر الخاص بك ليصبح مشروع عمرك الآن هو لزوم أقدام والدك حتى يقبض الله أمانته وأنت متفانٍ في برّه؟

هل فهمتم الآن يا أيها المتفكرون ما الذي أعنيه؟ إن فكرة مشروع العمر فكرة جميلة، ولكنها قد تصبح وبالا على صاحبها من الناحية الشرعية وقد تسقطه من عين الله، وإن كان في ظاهر حاله يتقدم من نجاح إلى نجاح ومن مرتبة إلى مرتبة أعلى منها- في نظر الناس- لأنها قد تعارض الإخلاص لله عز وجل، لا سيما حين تكون مرتبطة بالمجد الشخصي والنتائج المحسوسة، اللذين هما من أسس النجاح الشخصي في أدبيات تطوير الذات في الفكر الغربي الذي يغمرنا حتى آذاننا.

إن كل واحد منا يخرج إلى هذه الحياة فيجد أنه يعيش في ظروف وبإمكانيات تختلف عن غيره، هذه الأقدار التي وضعنا الله فيها يترتب عليها مسؤوليات وأوامر شرعية قد تختلف عمن لا يعيش في نفس السياق، ويجب على المسلم الحريص على مرضاة الله أن يوازن بين أجندته الخاصة وبين عبوديته لله، المسلم الذي يعيش في بلد تشهد حروبا خارجية أو داخلية، والمسلم الذي يعيش في منطقة موبوئة بالامراض، هل هذان المثالان يتمتعان برفاهية كاملة في اختيار مشروع العمر أم هما مأموران شرعا بمراعاة الأقدار التي خلقهما الله وسطها عند اختيار مشروع العمر! وهذا يذكرني بكلام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين عن أفضل العبوديات، وأنها التي تكون بتتبع مراضي الله في كل موقف وكل حين باختلاف الزمان والمكان.

في الحقيقة إن لديّ العديد من التأملات أو التساؤلات في قضية مشروع العمر، لأن لها تأثيرا بالغا على النُّخَب، لكن لعلي أكتفي الآن بالإشكالية التي أوردتها، وهي أن يتقصّى الإنسان مراد الله منه هو على وجه الخصوص عند اتخاذ هذه القرارات الحساسة في حياته، وسبيله في ذلك هو استهداء الله، واستخارته، والصدق معه، واستسلام النفس له، والعلم بشرعه سبحانه، وأن يعلم أن له مشروع عمر قد أعدت معالمه الأساسية مسبقا، ألا وهو العبودية لله عز وجل، بكل ما تحمله هذه الكلمة من أغوار سحيقة.

جاء في السنة أنَّ رجلًا مِنَ الأعرابِ جاءَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فآمنَ بِهِ واتَّبعَهُ، ثمَّ قالَ: أُهاجرُ معَكَ، فأوصى بِهِ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ بعضَ أصحابِهِ، فلمَّا كانَت غزوةٌ غنمَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ سبيًا، فقسمَ وقسمَ لَهُ، فأعطى ما قسمَ لَهُ، وَكانَ يرعى ظَهْرَهُم، فلمَّا جاءَ دفعوهُ إليهِ، فقالَ: ما هذا؟ قالوا: قَسمٌ قَسمَهُ لَكَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فأخذَهُ فجاءَ بِهِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فقالَ: ما هذا؟ قالَ: قَسمتُهُ لَكَ، قالَ: ما علَى هذا اتَّبعتُكَ، ولَكِنِّي اتَّبعتُكَ على أن أرمى إلى ههُنا، وأشارَ إلى حَلقِهِ بسَهْمٍ، فأموتَ فأدخلَ الجنَّةَ فقالَ: إن تَصدقِ اللَّهَ يَصدقكَ، فلبِثوا قليلًا ثمَّ نَهَضوا في قتالِ العدوِّ، فأتيَ بِهِ النَّبيُّ يحملُ قَد أصابَهُ سَهْمٌ حيثُ أشارَ، فقالَ النَّبيُّ: أَهوَ هوَ؟ قالوا: نعَم، قالَ: صدقَ اللَّهَ فصدقَهُ، ثمَّ كفَّنَهُ النَّبيُّ في جبَّةِ النَّبيِّ، ثمَّ قدَّمَهُ فصلَّى علَيهِ، فَكانَ فيما ظَهَرَ من صلاتِهِ: اللَّهمَّ هذا عبدُكَ خرجَ مُهاجِرًا في سبيلِكَ فقُتلَ شَهيدًا أَنا شَهيدٌ على ذلِكَ.

تدوينة سابقة ذات صلة بموضوع مشروع العمر: (العظيم أويس)

رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker


اكتشاف المزيد من

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


أضف تعليق