الصلاة وسرُّها الخبيء!

بسم الله، في الصلاة سر عجيب، يخفى على أكثر المسلمين…

على الرغم من شيوع فضائل الصلاة بين الناس، ومعرفتهم بأفضالها وبركاتها، لكن ظل هذا السر مواربا عنهم، لا سيما في هذا الزمن، زمن الماديات وضعف الإيمان بالغيب، هذا السر جاء كشفه في موضعين في سورة البقرة العظيمة، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة)!

أما الاستعانة على الأمور بالصبر فأمرها واضح، وأما الاستعانة بالصلاة فهنا يكمن سر من أعظم أسرار الصلاة!، حيث يقرأ المؤمن في هذه الآية أمرا إلهيا صريحا وواضحا من الله بأن يستعين على إنجاح أموره بالصلاة، مما يدل على أن للصلاة أثراً سحريا في إنجاز الأمور والتغلب على الصعوبات، ولم تحصر الآية جانبا معينا من جوانب الحياة نستعين عليه بالصلاة، بل جاءت مطلقة من التقييد، ولذلك أعرف أحد طلبة العلم- الذين فتح الله عليهم في اكتشاف هذا السر وسَبْرِ أغواره-، كلما اشتكى إليه أحدٌ من همّ أو حاجة قال له: (صلّ)، ومن جرّب ليس كمن لم يجرب، فلذلك نقول للعانس تبحث عن زوج: صلّي لله بنية أن يرزقك الله زوجا، وللباحث عن عمل: صل لله طالبا بنيتك الإعانة على العمل، وللطلاب في أيام الاختبارات: صلّوا بنية أن يعينكم الله في المذاكرة والامتحانات وستجدون أثر تلك الصلاة في الشأن الذي استعنتم عليه بها، ولقد تقبل أحد المحامين هذه الوصية بقبول حسن، فكان يخبرني أنه في اليوم الذي يكون مُقبلا فيه على مشاوير وأعمال شاقة يلوذ بسجادته فيصلي ركعتين قبل أن يخرج فيشعر في ذلك اليوم بخفة وتيسير وسهولة لا يجدها في الأيام التي تخلو من الاستعانة بالصلاة.

وإننا حين نعود لقراءة السنّة (وهي شارحة القرآن بلا شك) واضعين هذا الأمر نصب أعيننا فسنجده ظاهرة غاية الظهور في حياة الحبيب صلى الله عليه وسلم، أعني موضوع الاستعانة بالصلاة على شؤون الإنسان كلها، وليس أوضح في الدلالة على ذلك من الحديث الشهير(أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة) أخرجه أبو داود، وحسنه الألباني.

فهل هناك صيغة لغوية أعمّ من هذه الصيغة! التي تخبرنا أنه (كان) (إذا) اشتدّ عليه أي شأن من شؤونه فإنه يلوذ بالصلاة، ولفظة (إذا) عامّة في الأوقات، ولفظة (أمر) ها هنا تعد نكرة في سياق الشرط، فتعم كل الأمور التي تحزب الإنسان، أما لفظة (فزِع) فتدل على قرب الصلاة منه، وعلى شدة التعلق بها والهروب إليها كلما صعب عليه أمر، فانظر إلى كيفية استيعاب الحبيب صلى الله عليه وسلم لهذا السرمن أسرار الصلاة، وامتثاله لأمر ربه بالاستعانة بها طيلة حياته، وقارن هذا ببعض كلام الناس حين يتكلمون عن الصلاة فيكادون يحصرون أثرها في الأجر والثواب الأخروي فقط! لقد كانت الصلاة ركيزة أساسية في استقراره النفسي وثباته عليه الصلاة والسلام (أرحنا بها يا بلال) وفي الحديث الآخر (جُعلت قرة عيني في الصلاة)

فإذا حزبك أمر في علاقتك مع زوجك فافزع إلى الصلاة، وإن اعترتك مخاوف من المستقبل فافزع إلى الصلاة، وإن أصاب سيارتك عطل أهمّك فافزع إلى الصلاة، وإن وقعت مشكلة في مجال عملك ووظيفتك فافزع إلى الصلاة، وانظر إلى تنوع المدد الإلهي المقبل عليك.

وإذا كان الفزع إلى الصلاة منهجا نبويا فسنجده بلا شك في حياة تلاميذه عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك ما جاء (عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه نُعِي إليه أخوه وهو في سفر (أي أتاه خبر وفاته)، فاسترجع ،ثم تنحّى عن الطريق، فأناخ فصلّى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين).

 ثم إني اكتشفت لاحقا أن الفزع إلى الصلاة لم يكن خاصا بشرعنا، بل إنه في شريعة الأنبياء قبلنا!، ولا زلت أذكر انبهاري إلى الآن حين قرأت في السنّة قصة إبراهيم عليه السلام مع الملك الذي أراد سوءا بزوجته، وأترككم مع سياق النص الأصلي الذي جاء فيه (فَلَمَّا دَخَلَ أَرْضَهُ رَآهَا بَعْضُ أَهْلِ الجَبَّارِ، أَتَاهُ فَقالَ له: لقَدْ قَدِمَ أَرْضَكَ امْرَأَةٌ لا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَكُونَ إِلَّا لَكَ، فأرْسَلَ إِلَيْهَا فَأُتِيَ بهَا فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ عليه السَّلَامُ إلى الصَّلَاةِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عليه لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَقُبِضَتْ يَدُهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً)، فتفكّر معي كيف أن الخليل عليه السلام عندما أخذت زوجه من بين يديه لاذ مباشرة بالصلاة!

وها هنا مسألة مهمة يتعين الإشارة إليها: ليس شرطا عند الاستعانة بالصلاة أن تكون على أكمل ما يكون من الخشوع والاستعداد للصلاة، بل إن هذا كثيرا ما يكون صارفا شيطانيا عن الاستعانة بالصلاة للواقعين في فخ المثالية، بل صل كيفما اتفق، وبحسب ظروفك، وتذكر أن الله شكور، وأن الرب كريم، ناهيك عن أن امتثال عموم الأمر بالاستعانة بالصلاة في الخطوب كلها يستلزم أن يصليها الإنسان في كثير من الأحيان على حال ليست بالكاملة، وذلك لتقلب ظروف الإنسان وتنوعها.

ختاما انظر إلى هذا النص الخلاب لابن القيم عن أسرار الصلاة، واعلم أن الرجل تكلم عن تجربة ومشاهدة، وسل الله من فضله، فإن الذي فتح عليه في الصلاة سيفتح عليك بإذن الله:

(الصلاة مجلبة للرزق، حافظة للصحة، دافعة للأذى، مطردة للأدواء، مقوِّية للقلب، مبيِّضة للوجه، مُفرحة للنفس، مُذهبة للكسل، منشطة للجوارح، ممدة للقوى، شارحة للصدر، مغذية للروح، منورة للقلب، حافظة للنعمة، دافعة للنقمة، جالبة للبركة، مُبعدة من الشيطان، مُقربة من الرحمن.

وبالجملة: فلها تأثير عجيب في حفظ صحة البدن والقلب وقواهما، ودفع المواد الرديئة عنهما، وما ابتلي رجلان بعاهة أو داءٍ أو محنة أو بلية إلا كان حظُّ المصلي منهما أقلَّ، وعاقبته أسلم.

وللصلاة تأثير عجيب في دفع شرور الدنيا، ولا سيما إذا أُعطيت حقها من التكميل ظاهرًا وباطنًا، فما استدفعت شرور الدنيا والآخرة، ولا استجلبت مصالحهما بمثل الصلاة، وسرُّ ذلك أن الصلاة صلة بالله عز وجل، وعلى قدر صلة العبد بربه عز وجل تفتح عليه من الخيرات أبوابها، وتقطع عنه من الشرور أسبابها، وتفيض عليه مواد التوفيق من ربه عز وجل، والعافية والصحة، والغنيمة والغنى، والراحة والنعيم، والأفراح والمسرات، كلها محضرة لديه، ومسارعة إليه.

والصلاة شأنها في تفريح القلب وتقويته، وشرحه وابتهاجه ولذته أكبر شأن، فهي من أكبر العون على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة، وهي منهاة عن الإثم، ودافعة لأدواء القلوب، ومطردة للداء عن الجسد، ومُنورة للقلب، ومُبيضة للوجه، ومنشطة للجوارح والنفس، وجالبة للرزق، ودافعة للظلم، وناصرة للمظلوم، وقامعة لأخلاط الشهوات، وحافظة للنعمة، ودافعة للنقمة، ومُنزلة للرحمة، وكاشفة للغُمَّة، ونافعة من كثير من أوجاع البطن).

رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker


اكتشاف المزيد من

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


رأي واحد حول “الصلاة وسرُّها الخبيء!

  1. التنبيهات: ثرثرة حول الإجازة

أضف تعليق