
بسم الله، في معظم الأحيان نشعر بأنا نولد ضعافا ثم لا نزال نقوى وتتزايد مهاراتنا كلما كبرنا، إلا أن الوضع ينعكس أحيانا، فيكون الإنسان حال صغره ماهرا وقديرا في بعض صفات النفس ثم لا يزال يفقدها وتتساقط منه كلما تقدم في العمر، وقد يأتيه يوم فينظر إلى نفسه حين كان صغيرا ويتساءل: كيف استطعت أن أفعل كذا في صغري أو أتصف بكذا، ولقد تأملت من منظوري فيما أغبط عليه الأطفال من قدرات خارقة، فخرجت بالقائمة التالية:
1- الفرح والاستمتاع بالموجود: ضع أطفالا في أي غرفة- حتى لو كانت خالية من الألعاب- واتركهم لبضع دقائق ثم عد إليهم، ستجد أن كلا منهم قد انشغل بشيء ما وبدأ يلعب ويستمتع كيفما كان الوضع، الأطفال لديهم قدرة على استغلال المتاح لديهم في كل الاحوال حتى لو كانوا في ساحة حرب، هذه مهارة فائقة ستحتاجها كثيرا عندما تكبر، ولا أدري كيف فقدناها مع مرور الأيام، فكلما كبرنا بالغنا في وضع شروط مسبقة للاستمتاع أو الشعور بالنعم، فإذا لم تُستوف شروطنا اكتسينا بكساء الحزن والملل! ألم تشتاقوا إلى اليوم الذي كانت الدنيا لا تسعكم فيه من الفرح بسبب قطعة حلوى؟ ما أسهل الفرح في تلك الأيام.
2-عدم الانجرار للماضي ولا الانشغال بالمستقبل: الأطفال يعيشون اللحظة الحاضرة بكل استغراق وإقبال، إنهم لا يفسدون المتعة بسبب ماض قد حصل ولا فائدة من اجترار أحزانه، أو مستقبل غائب يدبره المدبر سبحانه، وهذه من أهم قواعد العيش الهانئ، إذ أن كثيرا من أسباب اكتئاب البالغين هو احتجاز الماضي لهم وعدم قدرتهم على افتكاك إسارهم منه، أو الانشغال بما سيكون في المستقبل مما لا حيلة للإنسان فيه بعد بذله الأسباب، وقد قال الشاعر: ما مضى: فات، والمؤمّل غيبٌ ولك الساعة التي أنت فيها! أعرف امرأة تزوج زوجها عليها قبل ثلاثين سنة، ولا زالت إلى الآن تتحدث عن الحادثة وعن آلامها الشخصية وتبكي حتى لكأن الأمر قد حصل البارحة، يشبه الأمر أن تحل عليك فاتورة بمبلغ معين، فتقوم بدفع الفاتورة نفسها آلاف المرات!
وقد يستغرق الإنسان بين هذين الداءين (الارتهان للماضي والمستقبل) فيمضى عمره غير شاعر به، فلا يكاد يشعر بيومه لأنه يفكر في المرحلة القادمة من حياته، فإذا بلغها فكر في المرحلة التي تليها، وهكذا، وقد قال الأديب أحمد خالد توفيق رحمه الله: (كم تمنيت مرور الأيام… ونسيت أنها عمري)
3- القدرة على الدوران بدون الشعور بالدوار: حينما كنت طفلا كنت أدور ما شاء الله أن أدور دون أي عواقب جسيمة، والآن أجد أني افتقدت هذه القدرة الخارقة، ويجيئني أطفالي مرارا لكي أحملهم وأدور بهم فأجدني أشترط عليهم دورة أو دورتين ثم أقوم بإنزالهم، لأن للسن أحكامه!
4-حسن النية وسلامة الصدر تجاه الناس: الأطفال يبتسمون بصدق ومودة للجميع دون تفريق بين غني وفقير أو قريب وغريب، وإذا ما أسأت إليهم فسرعان ما ينسون إساءتك بأدنى بسمة أو تحية، وقد يتعاركون فيما بينهم عراكا عنيفا يبلغ ضجيجه عنان السماء ثم لا تلبث أن ترى الخصماء قد نبذوا كل ما حصل وعادوا للعب مرة أخرى، قارن هذا بتفاهات الكبار حين يتسبب موقف أو مال في قطيعة بين إخوان خرجوا من رحم واحدة!
5- التجرد المعرفي: إذا كنت تسمع للأطفال وتراقب ردود أفعالهم، فستجد أن لهم عقولا موضوعية في غاية الحياد والتجرد! إنهم يبدؤون من الصفر، وليسوا أسرى للعادات والتقاليد، فهم يسألون عن العلة والحكمة، والمصلحة والمفسدة، وقد يضعونك أحيانا في مأزق وتظل حائرا عن الرد، مالم تلجأ طبعا لحسم الأمر بسرعة عن طريق صفعة أو قرصة تنهي بها حالة الجدل!
اشترى أحد الآباء لأولاده بعض المثلجات (آيس كريم) وعندما تحلقوا لتناوله خلط الطفل الصغير (الشيبس) الذي كان عنده بها، فزجره من حوله، فرد الطفل بكل صدق: لماذا؟ إنها تعجبني، فظل الأب يفكر بعدها مليا: لماذا؟ ووجد أنه ما من حجة حاسمة تدل على عدم صلاحية أكل (الآيس كريم بالشيبس) سوى الأذواق، فلماذا التدخل في ذوق الطفل!
7-حب التجربة: يميل الأطفال إلى تجربة كل شيء بأنفسهم، ولا يحبون التسليم بنتائج غيرهم، وفي الحقيقة؛ فإن هذه الخاصية هي سر كل الاكتشافات والاختراعات البشرية، لسببٍ ما يتزايد حذر الإنسان كلما تقدم في العمر وتقل شجاعته (أو يزيد جبنه) عن خوض التجارب والمغامرات الجديدة، مع أن الواقع يثبت أن كثيرا من منعطفات الحياة الجوهرية تكمن وراء هذه التجارب!
ولست أعني بما سبق ذكره من تفكرات أن ننبذ ما نحن عليه بعد أن كبرنا، بل أن ينظر كل واحد في نفسه ويحاول أن يحلل ماذا حصل له!
تذكرت حين كتابة السطور السابقة بضع عبارات جميلة، للعميق دوستويفسكي؛ يصف فيها حال الأطفال في روايته الشهيرة (الأبله)، فسأنقلها لمزيد من التأملات:
(إن في وسع المرء أن يقول للطفل كل شيء، كل شيء. لشد ما أدهشني دائما مدى جهل الكبار بالصغار، بل ومدى جهل الآباء بأبناءهم أنفسهم)
(إن الكبار يجهلون أن الطفل يستطيع حتى في أخطر ظرف أن يسدي بنصيحة رائعة)
(إن المرء لتبرأ نفسه وتشفى حين يعيش مع الأطفال)
(كنت أجيبهم جميعا بأن من العار أن نكذب على الأطفال، وبأن الأطفال يعرفون كل شيء، حتى دون أن نحدثهم عنه، مهما نحاول إخفاءه عنهم، وبأن ما نخفيه عنهم قد يتعلمونه تعلما فاسدا، أما أنا فأطلعهم عليه بطريقة مناسبة، وحسب الإنسان أن يتذكر طفولته هو حتى يدرك صحة ما أقول)
حسنا، ماذا عنكم أيها المتفكرون، ما هي الخوارق التي تغبطون الأطفال على تمتعهم بها؟
رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker
اكتشاف المزيد من
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
مدونة رائعة كالعادة
وألاحظ بأن غالبية ما ذكرتموه يعود لأن بعض مشاعر الطفل لا تنموا بعد سواء كانت سلبية كالحقد والحسد والرغبة بالانتقام، أو إيجابية كالحكمة والحياء والتريث قبل اتخاذ القرارت
إعجابإعجاب
وجيه👌🏻
إعجابإعجاب