رمضان وصديقي المسحور

بسم الله، جاءني على البريد الالكتروني الرسالة التالية: (دكتورنا الغالي، كنت للتو قد انتهيت من قراءة مدونة : 7 (زُبَد) للمرضى الروحيين  للمرة الرابعة إذا لم تَخُنِّي ذاكرتي، وكنتَ في نهاية التدوينة قد وعدتنا بأنك ستكتب زُبَداً أخرى عن التعامل مع النفس، والتعامل مع الناس، والتعامل مع الجن، والتدوينة كانت في عام ٢٠٢١م، فوالله إنني أنتظرها على أحرٍّ من الجمر …إلخ).

فوفاءً لأصدقاء المدونة، واستكمالا لموضوعً في غاية الأهمية، أستغل رمضان في توجيه رسالة ثانية للمرضى الروحيين.

مرحبا صديقي المسحور، وكيف أنت مع الشهر الكريم؟

هل مازلت متفاجئا من ثوران متاعبك فيه رغم فرحك المسبق به وظنك أنك ستكون كغيرك من الناس في الإقبال على الخير والانطلاق في ميادينه؟ أم أنك تقبلت الحقيقة الجلية وتعايشت معها، وهي حقيقة أنك (مختلف) عنهم؟ لا تحزن إذا رأيت الناس قد أقبلوا على الخير ونشطوا وأنت كما أنت، إن لم تكن أسوأ، فأنت مختلف، وسيكون أجرك ومقامك عند الله مختلفا كذلك.

ولأني أعلم بمعاناتك في هذه الأوقات؛ فلقد أردت أن أذكرك ببعض الحقائق التي قد تكون مُرّةً على فؤادك بادئ الأمر لكن عساها أن تربت على قلبك الجريح ببعض من السلام والسكينة إذا تسربت إلى داخله، ولأني لا أحب التكرار؛ فسأحيلك على التدوينة السابقة وأركز في هذه التدوينة على مالم أذكره سابقا، وستكون النصائح من عفو الخاطر، دون تكلف في الترتيب، وعلى ذكر الترتيب، ستكون الحقيقة الأولى متعلقة به، فهيا بنا:

الحقيقة الأولى: لن تنتظم حياتك: أعلمُ أنك ترغب في كثير من الأحيان أن تكون مثل أولئك الناس الذين يعيشون حياتهم وفق جداول ومواعيد دقيقة، وتشعر أن ذلك قمة الجمال والنجاح- لا سيما إن كنت من النوع الروتيني قبل بلائك- ولكن دعني أسألك سؤلاً:

هل يمكن لجندي رابض على حدود منطقة حربية مستعرة أن ينتظم جدوله؟ كلا وألف كلا، إذاً تقبّل أن الأمور لن تسير في كثير من الأحيان على ما خطّطتَ له، أو في أكثر الأحيان، وراعِ ذلك في التزاماتك، إن هجمات شياطينك لن تستأذنك قبل أن تداهمك، وإن نوبات مرضك لن تنظر في جدول التزاماتك قبل أن تشتدّ، وعلى من كان قريبا منك من زوج أو صديق أن يوطّن نفسه أيضا على ذلك.

وثمة أمر مهم جدا، حين يدهمك العدو فتنقطعَ عما كنت مقبلا عليه من دين أو دنيا، فتذكر أن إرادة الله فوق كل إرادة، وأن انقطاعك هذا من جملة ما قدّره الله وأذن به سبحانه، فهنا تخضع لإرادة الله وتنخلع من الغيظ الذي انتابك بسبب استحضارك نجاح عدوك في قطعك عن عملك! بهذا تبلغ درجة عليا في الاستسلام والرضا بالله ربا، ولعل القرب من الله والاجر الذي سيتحصل لك يكون أنفع وأرفع لدرجتك عند الله مما كنت مقبلا عليه.

الحقيقة الثانية: لن يعذرك الناس: اقطع الأمل من الآخرين أن يتفهموا ظروفك! غالبا لا يعذر الناس إلا من رأوه ينزف دما أو نحو ذلك من الآثار المادية الملموسة التي يدركونها بحواسهم، ناهيك عن سطوة العلم التجريبي الغربي على الناس واصطباغ حياتهم بالمادية، مما أضعف إيمانهم بالأمراض الروحية بل أثر حتى على بعض المنتسبين إلى العلم والدعوة الذين صاروا يتكلّفون في تأويل النصوص الواردة في السحر والعين من أجل التوفيق بينها وبين العلم التجريبي الذي لا يؤمن بما لا يمكن قياسه في المختبرات، فلا حاجة لإعادة التجربة مرة بعد مرة مع هذا وذاك وتكرار خيبة الأمل مع فلان وفلان، ولست أنكر الحاجة في بعض الأحيان إلى الشرح والتوضيح لبعض من حولك، لا سيما ذوي الحقوق من والد أو زوج، ولكن أبقِ توقعاتك منخفضة، إن لكل بلاء خصائص، ومن خصائص بلائك هذا أنه خفي وغامض عليك أنت، فما بالك بمن حولك من الناس، الذين سيظنونك متوهما أو ممثلا بارعا أو حتى كسولا على أخف الأحوال، ولا شك أن هذا مؤلم، مؤلم جدا، ولكن لا بأس عليك يا صديقي، فالله يعلم، ويرى، ويسمع، فماذا عليك بعد هذا، انظر تدوينة متفكر في الجراح، المتعلقة بخصائص الجروح المعنوية

 الحقيقة الثالثة: السير إلى الله بالقلوب: إن لنا ربا عظيما بيّن لنا في كتابه وسنة نبيه أن قلوبنا هي موضع نظره وجزائه سبحانه، وأن الأعمال القلبية أثقل في الميزان- في الجملة- من الأعمال البدنية، إن لك سلوى عظيمة يا رفيقي الواهن في الحديث الذي قال فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم للمجاهدين: (إنَّ بالمَدِينَةِ أقْوامًا، ما سِرْتُمْ مَسِيرًا، ولا قَطَعْتُمْ وادِيًا إلّا كانُوا معكُمْ، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، وهُمْ بالمَدِينَةِ؟ قالَ: وهُمْ بالمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ) رواه البخاري، وهذا الحديث من أجمل الأحاديث التي يقرأها المسلم في الحياة، فلا تحزن أيها المسحور إذا لم تطاوِعْك إرادتُك للقيام، أو إذا بدأت الصلاة ثم انقطعت قبل أن تكمل، أو إذا عزمت ثم انفرطت إرادتك ووجدت نفسك غير قادر على إجبارها على العبادة، لا بأس، فأنت معهم، أنت في صفوف الساجدين القانتين، وفي قوائم الصائمين الظامئين، مادام لم يمنعك من العبادة إلا هذا المرض العضال، فهنيئا لك أجر من قام رمضان إيمانا واحتسابا.

الحقيقة الرابعة: الرفق بالنفس عبادة! : من أجلّ العبادات التي تتأكد في حق المريض الروحي عبادة الرفق، والحذر من جلد الذات، الذي لا يعطي صاحبه إلا مزيدا من الإحباط وسقوطه في عين نفسه، لقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن (الله رفيق، ويحب الرفق في الأمر كله)، والرفق كما يؤمر به الإنسان مع الناس فهو مأمور به مع النفس، لأن الكل داخل في عموم النص، وإني لأعتقد أن السلاح السري الأخطر الذي يستخدمه الشيطان مع المسحور يكمن في الإحباط واستحقار الذات، لا سيما مع كون المسحور غير قادر على التحكم في نفسه أحيانا عن غشيان المعاصي أو التفريط في الواجبات، وإذا سقط الإنسان في غياهب الإحباط فستخور قواه تلقائيا ويصبح حينها فريسة حقيقية للشياطين والأمراض النفسية، لذلك أقول: كما ترى الناس يركزون في موسم رمضان على طاعات معينة، فركز على التعبد لله بالرفق بنفسك وإعذارها، فيعظم أجرك وتهنأ نفسك المنهكة تحت ظل رحمة الله.

الحقيقة الخامسة: سر الحيرة: في تقديري الشخصي أن أهم سبب لصعوبة الرفق بالنفس عند المسحورين ونحوهم هو عدم وجود حد واضح عند الإنسان يستطيع أن يفرق به بين ما ارتكبه تحت ضغط المرض الروحي، وبين ما ارتكبه بسبب هوى النفس مما يفعله الإنسان العادي، وأنه لا يستطيع أن يجزم باستفراغ وسعه من عدمه، فأقول لهم: يكاد يستحيل أن تستعمل مقياسا قطعيا في هذا الشأن كما يفعله أصحاب الأمراض المحسوسة، فليس لنا بعد بذل الميسور إلا أن نعذر أنفسنا بالحديث القدسي العظيم الذي يقول الله فيه: (ورحمتي سبقت غضبي)، فهذا الحديث العظيم شفاء للفؤاد، وفيه بيان أنه إذا اجتمع سبب للرحمة والإعذار( كالعين أو السحر للمريض) وسبب للغضب والعقاب (كالهوى للمريض الروحي) فإن رحمة الله غالبة، وهي الأصل والقاعدة، وقد جاء في الحديث (لا أحد أحب إليه العذر من الله)

وما سبق ذكره هو فيما بين العبد وربه، وأما إذا تعلق الامر بحقوق الخلق، فللقضاء أحكامه الدنيوية الخاصة به، كما أن ذلك لا يعني توقفنا عن الاستغفار وتجديد التوبة المشروعين في حق كل مسلم، لكننا نحارب الاحباط واحتقار الذات!

الحقيقة السادسة: أثر التركيز على البلاء: في الحقيقة هناك فرق جوهري وشاسع بين رجلين، رجل يرى أن بلاءه في السحر عائق له عن مهماته وطموحاته، فكلما استجدّت له عوارض البلاء شعر بالإحباط وخيبة الأمل، وبين رجل قرر أن ينظر إلى الأمر من زاوية أخرى، وأن يجعل الصبر على هذا البلاء أحد طموحات حياته الأساسية، لقد قرر أن يركز على هذا الحدث ويتخذه أحد الإنجازات الكبرى في حياته، وذلك بعد علمه أن منزلة الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، وأننا ما خلقنا إلا لعبادته سبحانه، وأن صبره هذا سيعلو به في قمم العبودية.

الحقيقة السابعة: ومضات في البلاء:

كما تطلب من الله زوال البلاء فاطلب منه إنزال السكينة، فإنها إذا نزلت عليك استحالت حياتك نعيما وإن لم يزل البلاء، وتتبع مواضع نزول السكينة في القرآن تجد تصديق ما ذكرته.

قد لا تكون استجابة الله لدعواتك بأن يرفع البلاء وإنما بتقويتك عليه حتى تتكيف معه، فتجمع بين الحسنيين، حسنة البلاء العظيم الذي يجعل ميزان حسناتك طافحا يوم الوزن، وحسنة الإقبال على العبادات وكل ما ينفعك.

بينما أنت مستعجل متضجر من تأخر شفائك، فكر مليّا كم شفاك الله بهذا البلاء من أمراض مهلكة ستقذف كثيرين من الناس في النار، مثل مرض الكبر الذي جاء فيه: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، ومثل مرض العجب الذي كان سببا في حبوط عمل عابد بني إسرائيل، وغير ذلك من الأمراض، ولولا هذا المرض الذي أضناك؛ لما شفيت من تلك.

ختاما يا صديقي:

استمتع بكرم الله، تلذذ بصفات سخائه، فتلك عبادة في حد ذاتها، وغايظ الشيطان بهذا الكرم، واعلم أن تسبيحة منك كألف تسبيحة من غيرك، مصداقا لحديث (سبق درهم مئة ألف درهم)، ولعلنا أن نلتقي في الآخرة بإذن الله؛ فتحدثني مغتبطا حينها بفضل الله وإنعامه عليك حين اختار لك هذا البلاء وساقه إليك.

ولاتنسني من الدعاء🌹

رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker


اكتشاف المزيد من

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


أضف تعليق