التشافي بذكر الموت

بسم الله، تتنوّع الأدوية التي يستخدمها الناس للتعامل مع آلامهم ومتاعبهم في هذه الحياة؛ فمنها الدواء الذي يصلح كمسكِّن مؤقّت سرعان ما ينتهي مفعوله ليعود الإنسان في غياهب أحزانه مجددا، ومنها الدواء المركّز قويُّ المفعول الذي يواجه الألمَ من جذوره فينتفع به صاحبه أكثر من النوع الأول، لكن هذا الصنف الثاني قد يحتاج إلى بعض الوقت حتى يحسن المرء استخدامه.

وحيث إننا نعيش عصر السرعة بل العجلة؛ فإن معظم الناس ينصرف إلى استخدام النوع الأول من الأدوية، وقد يظل على هذه الحال طيلة عمره، غير متبصّر بالنوع الثاني، والتشافي بذكر الموت من النوع الثاني.

ينظر معظم الناس إلى فكرة ادّكار الموت واستحضاره من زاويةٍ واحدةٍ ويقتصرون عليها، وهي أنه سبب للحزن أو الزهد في الدنيا، لكنّ له زاويةً أخرى رائعةً إذا أحسن المرء استخدامها، ألا وهي أن الموت هو الطريق اليقيني الذي تنقطع به آلام المؤمن في الدنيا، ذلك لأن بعض الأحزان والآلام قد تكون ملازمة للإنسان وممتدةً معه إلى مالا نهاية- بمنظوره المحسوس- مثل الأمراض المؤلمة والمزمنة في آن معا، أو ظروف الفقر المدقع والعيش البئيس التي قد يعيشها بعض الناس أو الفقدان المريع لأسرة كاملة أو غير ذلك من أسباب المعاناة التي قد تستولي على بعض الناس فلا يجد لها مخرجا، فهنا يقول المؤمن لنفسه: (وماذا علي لو لازمني هذا البلاء طيلة عمري!) أليس الموت جائياً في آخر المطاف لينتزعني من قبضة هذه الأحزان ثم أذهب إلى دار الجزاء والعوض والجبر من الكريم سبحانه! مهما كانت ظروفك الخانقة جاثمةً عليك وعلى كل شيء حولك، فسيدركك الموت في وقت ما ليخطفك من هذه الضوضاء الصاخبة ليدفنك في بطن الأرض كما دفن أضعاف أضعاف المخلوقات الحية الآن، والتي نطأ عليها في حلنا وترحالنا على ظهر هذا الكوكب، والموت حين ينتشلك من بين كل هذه الأحزان فإنك لا تدري متى يكون ذلك، قد ينتشلك بعد أسبوع أو بعد شهر أو أقرب من ذلك أو أبعد، وزيارة واحدة لمغسلة الأموات أو قسم الوفيات في المستشفى تجعلك تتذكر أن جنائز المساجد تحوي كل الأعمار وكل الفئات في المجتمع، وليست حكرا على كبار السن والعجائز.

وهذه الزاوية التي ننظر للموت من خلالها ليست بدعاً من التفكّر، فقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري أنَّ رَسولَ اللَّهِ ﷺ مُرَّ عليه بجِنازَةٍ، فَقالَ: مُسْتَرِيحٌ ومُسْتَراحٌ منه. قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما المُسْتَرِيحُ والمُسْتَراحُ منه؟ قالَ: العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِن نَصَبِ الدُّنْيا وأَذاها إلى رَحْمَةِ اللَّهِ، والعَبْدُ الفاجِرُ يَسْتَرِيحُ منه العِبادُ والبِلادُ، والشَّجَرُ والدَّوابُّ. فهذا الحديث يدل على أن الموت سبب للراحة! ومن ذلك الحديث الذي رواه مسلم: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، فبمالموت يخرج المؤمن من سجنه.

وفي الحديث المشهور الذي أمر فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر هاذم اللذات بيّن العلة في ذلك فقال: (فإنَّهُ ما ذَكَرُهُ أحدٌ في ضِيقٍ إلّا وسَّعَهُ ولا ذَكَرُهُ في سَعَةٍ إلّا ضَيَّقَها عليهِ) حسنه الألباني في صحيح الترغيب، والذي يعنيني هنا في الحديث هو الشطر الأول، وهو أن تذكر الموت يهوّن الشدائد على الإنسان، لأن الموت سيكون آخر عهده بها.

وبهذا ندرك معاشر المتفكرين أن غفلتنا عن استحضار الموت لا تعود علينا بالخسارة فقط في جانب الانهماك في الدنيا وملذاتها، بل إن هذه الغفلة سبب كبير لحرماننا من أهم أسباب الراحة والطمأنينة وطيب العيش..

ختاما: هذه دعوة للتشافي بذكر الموت، فمن منكم قد سبق له أن جرّبها؟

رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker


اكتشاف المزيد من

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


أضف تعليق