اذبح إسماعيلك!

الحمد لله، يمر بالسائرين إلى الله، المؤمنين بأن نهاية هذه المسيرة هي المثول بين يديه، مواقفُ في الحياة يقال لهم فيها: اذبح إسماعيلك!

ولقد علم المؤمن أن الدنيا في حقيقتها هي جملة من الاختبارات، بالسراء والضراء، يجتازها واحدا تلو الآخر، حتى ينزل ملك الموت بساحته في لحظة محددة معلنا انتهاء وقت الاختبار وسحب روحه من جسده، وآيات القرآن طافحة بهذا المعنى، معنى الاختبار!

لكن هذه الاختبارات ليست سواء من حيث صعوبتها وسهولتها؛ فقد يُؤمر المؤمن بعبادةٍ توافق قدراته أو ميوله، فيؤديها طائعا مستمتعا، مثل قيام الذكي النجيب بعبادة طلب العلم، أو قيام الجواد الكريم بعبادة الصدقة، أو قيام الأليف الليّن بعبادة حسن الخلق، وقد يكون الأمر بَيْنَ بَيْن، كما هو الحال في كثير من التكاليف، وقد يكون الأمر بالعكس، بأن يُؤمر المؤمن بما يخالف طبعه؛ مثل قيام الشخص الانطوائي المحب للعزلة بالعبادات الاجتماعية، كعيادة المريض وزيارة الجار؛ فإنها تكون أشق عليه من الشخص العادي، وهي أشق على الشخص العادي من الشخص الاجتماعي الذي يحب إقامة العلاقات بطبيعته، وليس هذا ما أتكلم عنه هنا أصالةً، بل المقصود هو شيء أعلى وأشق من ذلك..

لأن الذي أتكلم عنه هو موقف يحصل في الحياة مرة أو مرتين، بأن يحصل الابتلاء للمؤمن في أحب شيء إليه في الدنيا، حيث تسوقه الأقدار والخطط الربانية إلى موقف فاصل يخبره فيه قلبه أن عليه التضحية فيه لله وحده بهذا المحبوب، فقد تكون زوجة المؤمن أحب شيء إليه في الدنيا، وهو لا يطيق كسر قلبها أو تمعير وجهها في صغائر الأمور- فضلا عن كبيرها-؛ ثم تسوقه الأقدار إلى موقف يحتاج فيه إلى التعدد، فيكون قلع الجبال أسهل عليه وأهون لديه في هذه الحالة من كسر قلب حبيبته ومعشوقته، لكن رضا الله أولى، فيقول له ضميره هنا: (اذبح إسماعيلك). وقد يكون الزوج أحب شيء في الدنيا إلى قلب زوجته، لكن يحصل من الظروف ما يشعرها أن تزويجه بزوجة ثانية قد صار متحتما شرعا، لأن إعفافه من الحرام لا يتم إلا بهذا، وهي حرة في قرارها هذا ولا مكره لها، فتكون مضطرة شرعا- لا قدرا- إلى تزويجه، فيقال لها: (اذبحي إسماعيلك)، وقد يجمع الإنسان ثروة مالية من كفاح وكدح وعرق استنزف أعواما من حياته، ثم يحتاج أخوه إلى عملية جراحية باهظة الثمن، تذهب بكل ما جمعه في حياته، فيقلب نظره يمنة ويسرة باحثا عن حلول أخرى، فلا يجد إلاّ أن يضحي بهذا المال، فيقال له: (اذبح إسماعيلك)، وقد يكون الابن هو عصارة روح أمه، وقد أنفقت عمرها كله في تربيته وتجويده وتحسينه، حتى صار رجلا مكتمل الرجولة، ملء السمع والبصر، ثم يدهم العدو بلادها، ويبدأ في التقدم والتهام الأرض مدينة تلو مدينة، فتشعر أن مقتضى الخطاب الشرعي أن ترسل هذا الابن ليدافع عن بلده في جبهات الحرب، وهي طائعة مختارة للأمر الشرعي، لا مكره لها من البشر.

وهذا الموقف موقف مهيب، صعب، مخيف، مبكي، تضطرب فيه مشاعر المؤمن، ويشعر فيه بمختلف التناقضات البشرية، فقد يميل إلى الانسحاب من المواجهة مطمئنا نفسه برحمة الله وعظيم عفوه، لكنه يعرف في قرارة قلبه ما هو المطلوب منه بوضوح!، وقد يفكر الواحد منا حين قراءة هذا المقال أنه سيفشل فيه ولا بد، لأن غالب الناس إذا تأملت في تدينهم، فتشعر أنه مستعد للعبودية والانقياد في جوانب حياته الأخرى إلا في جانب أو جانبين يمثلان نقطة ضعف عنده، فاللهم عونك وتأييدك، ولطفك وغفرانك! وإذا ما تأملنا في قصص القرآن الكريم فسنجد قصة إبراهيم عليه السلام أوضح مثال للنقطة التي أتكلم عنها، ومنها نستمد عنوان التدوينة: (اذبح إسماعيلك)، يقول ابن سعدي في تفسيره: (فإن إسماعيل عليه السلام لما وهبه اللّه لإبراهيم، أحبه حبا شديدا، وهو (أي إبراهيم) خليل الرحمن، والخلة أعلى أنواع المحبة، وهو منصب لا يقبل المشاركة ويقتضي أن تكون جميع أجزاء القلب متعلقة بالمحبوب، فلما تعلقت شعبة من شعب قلبه بابنه إسماعيل، أراد تعالى أن يصفي وُدَّه ويختبر خلته، فأمره أن يذبح من زاحم حبه حب ربه، فلما قدّم حب اللّه، وآثره على هواه، وعزم على ذبحه، وزال ما في القلب من المزاحم، بقي الذبح لا فائدة فيه، فلهذا قال: { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ }

وتأمل معي عزيزي المتفكر كيف سمى الله هذه الواقعة بأنها: (البلاء المبين).

تنويه: استفدت فكرة هذه التدوينة وعنوانها من إحدى قريباتي المؤمنات، ممن رزقها الله بصيرة في القلب ونوراً في الفؤاد، وأحسبها ممن (ذبحت إسماعيلها) فجزاها الله عني وعنكم خير الجزاء.

خاتمة: هل عندكم أمثلة أو قصص من حياتكم لفكرة (اذبح إسماعيلك) ؟ شاركوا بها في التعليقات.

رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker


اكتشاف المزيد من

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


أضف تعليق