الجديد في عالم المعاصي

Photo by George Becker on Pexels.com

الحمد لله، أما بعد:

فإن كنت عزيزي القارئ ممن يعصون الله ولكن لا يكابرون فتعال بجانبي لنقف في صف المذنبين المعترفين بخطاياهم الراجين باعترافهم هذا أن يتجاوز عنهم الكريم العفوّ سبحانه، وإلى عهد قريب كان هذا الحال هو السائد إلى حدٍ ما فيما أشاهده في المجتمع، ثم هبط على سماء المجتمع كائن جحيمي مُجنَّح اسمه (التأويل) ولَفَظَ نيرانه في صدور الناس فأحرق من نفوس العديدين كَسْرةَ الذنب وصار الواحد لا يكتفي بالعصيان حتى يضم إليه (التأويل)، وأعني به في هذا السياق إيجادَ قناعٍ فكري جدلي يغطي به العاصي على سوأة فعله ويتخذه دِرْعاً أمام من ينكر عليه، رغم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من محكمات الدين المنصوص عليها بصراحة في الكتاب والسنة، حتى إن القرآن جعل تركه من أسباب استحاق اللعن- عياذاً بالله- في قوله تعالى: (لُعن الذين كفروا…كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه)، هذا التأويل له موضات متعددة، فهلم نلقِ نظرةً على بعض هذه الموضات الفكرية:

الموضة الأولى: لا تتدخلوا في حريات الناس! وهذه الموضة في حقيقتها تدعو إلى تأصيل قاعدة (أن لكل شخص الحق في معصية الله عز وجل أو إغضابه) وما أبشعها من قاعدة! حتى إني لأشعر أن مجرد صياغتها هكذا تبرز مدى قبح جوهرها وشناعة حقيقتها بما يغني عن الرد عليها، فهي تساوي بين ما أباحه الله وبين ما حرمه، وأنه كما أنه يحق لي التقلب بين أنواع المباحات الشرعية من أنواع القرارات في المآكل والمشارب وشتى جوانب الحياة دون أن يحشر أحد أنفه في ذلك فلي نفس الحق في معصية رب الأرباب دون تدخل من أحد!وهل أنت إلّا عبد آبق أُمِرْنا نحن بقية العبيد أن ننصحك بالعودة إلى حمى السيد سبحانه وتعالى! أليس في هذه الموضة تغافل متعمد عن أكبر الحقائق الكونية التي يؤمن بها كلا الطرفين! وهي حقيقة العبودية التي خُلقنا لأجلها! وهل من يأمرك بالمعروف وينهاك عن المنكر إلا محسن إليك! تخيلوا رجلا على وشك الدوس على لغم فيأتيه تحذير ممن حوله فيقول: مالكم صلاح، أنا حر! أو يأكل طعاما فاسدا- عامدا أو غير عامد- فإذا نُبِّه على ذلك غَضِب!

الموضة الثانية: هل آذيتُ أحداً! إذاً مالكم صلاح! وهذه موضة مستقاة من الغرب، فالفكر السائد عندهم أن للإنسان أن ينحط كما يشاء ويرتكب من الوضاعات والقبائح ما يريد طالما أنه لم يؤذ غيره بشكل مادي مباشر! الحقيقة أيها الأحمق أنك تؤذي المجتمع كاملا، فإن للمعصية شؤما يتجاوز صاحبها إلى غيره إن هم لم يأخذوا على يديه، (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون)، ناهيك عن الآثار السيئة المباشرة المترتبة على كل معصية من المعاصي، فإن الله لم يحرم علينا شيئا إلا وفق حكمته ورحمته بنا.

الموضة الثالثة: دعونا من النفاق! وهذه الموضة تقوم على تحريف معنى مصطلح النفاق الوارد في النصوص الشرعية، والذي يعني إخفاء الكفر وإظهار الإيمان (النفاق الاعتقادي)، أو الاتصاف بصفات المنافقين مثل إخلاف الوعد والفجور في الخصومة (النفاق العملي)، إلى معنى جديد بحيث يصير من يخفي معصيته ولا يجاهر بها منافقا! وحتى نتجاوز هذه المشكلة- على مقتضى هذا المنطق الغبي- فلا بد أن نسمح للناس بإظهار مناتنهم وخبائث أفعالهم حتى تطفو على سطح المجتمع بُلّاعة من العفانات هربا من وصف النفاق الزائف هذا! لا داعي لأن يستسر الزاني أو المرابي أو العاق أو النمام بأفعالهم هذه، دعوا كل قذر يكشف قذاراته حتى لا نكون مجتمعا منافقا! وعلى طرد هذا المعنى المحرَّف للنفاق فإنه يلزم هؤلاء القوم أن لا يمانعوا في فتح أبواب الحمامات عليهم لأن الجميع يتخفّى فيها بفعل ما لا يرضى أن يفعله أمام العامة!، بل وحتى شبكات الصرف الصحي ينبغي أن تُظهر على سطح كل مدينة حتى لا نكون منافقين!وهذه الموضة فيها خبث واضح، لأنها تحاول الاستفادة من النفور الفطري الموجود في نفس السامع عن وصف النفاق وأشباهه.

الموضة الرابعة: المجتمع تغيّر! وهذا يُقال له: إن كنت تعبد المجتمع فإن أي مجتمع قد يتغير، وإن كنت تعبد الله فإن شريعته سبحانه باقية على كمالها وجلالها وجمالها لم تنسخ ولن تنسخ إلى يوم القيامة، وهذا المجتمع لا يملك لك نفعا ولا ضرا (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا)، وهذه الموضة تشي إلى حد بعيد بإمعية صاحبها وضعف شخصيته، فهو صالح إن صلح الناس، وفاسد إن فسد الناس، وليس له ذاتية أو استقلال في حد ذاته.

الموضة الخامسة: أثبتت الدراسات العلمية!، وهذا الكلام إن كان صادرا من شخص غير مؤمن فهو أكثر قابلية عندي للحوار، وإن كان صادرا من شخص مؤمن فما أعجبه، فهو مؤمن بالله قطعا، ومؤمن بالتحريم القطعي لهذا الشيء مثل الشذوذ أو الخمر أو غير ذلك، وأن الله حكيم رحيم عدل فيما يأمر به وينهى عنه، ثم هو يشك فيما هو مقطوع به بسبب ورود شيء مشكوك به، إن كثيرا من الدراسات العلمية قابلة للتوجيه المسبق أو التسييس، وكثيرا من الدراسات العلمية تقوم على أسس إلحادية، ناهيك عن أنك كشخص عادي أو مثقف عندما تقرأ خبرا عن دراسة علمية فإنك لا تعرف منهجية إعداد هذه الدراسة، ولا مدى مطابقة هذه المنهجية للمعايير التي يتوجب إتباعها، ولا مدى موثوقية وقوة الجهة أو المؤسسة التي صدرت عنها الدراسة…إلخ، فالخلاصة أن كلمة (دراسات علمية) ليست مرادفة بالضرورة لكلمة (حقائق)، فلا ينبغي أن يهتز المؤمن كلما لاح له اللفظ الأول هنا أو هناك. وهذه الموضة قد تصدر من شخص يحب العلم لكنه (فاهم السالفة غلط)، وقد تصدر من شخص يحب أن يظهر بمظهر المثقف المستقل المتحرر من (الأدلجة).

أخيرا: فإني مؤمن في قرارة نفسي أن معظم من يتذرع بهذه الموضات هو مدرك في قرارة نفسه بخطأ احتجاجه بهذه الأمور الواهية، ولكن بعض الناس يأنف أن يعترف أمام نفسه أو غيره بخطأ فيحاول أن يقوم بتبرير تصرفاته وكساءها بكسوة عقلية تعطيها شيئا من الحماية والمشروعية، ناهيك أن بعضهم معقّد نفسيا، فيتوهم أن نصح الناصح له يستلزم ادعاء الناصح لعلوه عليه وأفضليته عند الله، أو أن الناصح يحب التحكم فيه وغير ذلك من الأفهام النفسية الغريبة! بينما الناصح ليس له من الأمر شيء، إن هو إلا الخضوع لله عز وجل فيما أمر به من المناصحة، وهذا يذكرني ببعض المشركين الذين وصفهم الله في كتابه فقال: (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد) الله أكبر! ما أعجب أن يقال لشخص: اتق الله فيغضب من ذلك! اللهم أعذنا من الكبر وارزقنا التواضع للحق والخلق.

هذه بعض الموضات الجديدة في عالم المعاصي، فما رأيكم فيها يا أصدقاء متفكر، وهل رأيتم موضة جديدة غير مذكورة هنا؟

رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker


7 آراء حول “الجديد في عالم المعاصي

اترك رداً على تركي السفياني إلغاء الرد