متفكر في الخامسة والثلاثين

الحمد لله، أما بعد:

ففي بعض أيام المرحلة الجامعية، شعرت بفتور قوي قطعني عن برامجي العلمية، تحيرت وقتها فيما أفعل فقررت الشروع في قراءة ذكريات الطنطاوي- رحمه الله-، وقد كان من ضمن ذكرياته بعض المقالات التي يكتبها على شفا كل عِقْد من عمره، فمقالة وهو على شفا الأربعين، وأخرى وهو على شفا الخمسين، وهكذا، كانت مشاعري غريبة ومرتبكة وأنا أقرأ تلك المقالات، يمازجها خليط من الخوف والفزع!، لأنك تقرأ مقالتين متواليتين في نفس جلستك، بين كل منها حوالي عشر سنوات! كل منهما ينعى فيها صاحبها انقضاء عمره! إن لم يكن في هذا ما يسبب الرعب فما الذي يسبب الرعب إذاً! طبعا كنت أقرؤها في ذلك السن وكأني أنظر إلى كاتبها من بعيد بسبب فارق العمر، أما الآن فإني أتكلم عنها وأنا في خضم المرحلة العمرية التي كان المؤلف يكتب فيها هذا النوع من مقالاته…

الحقيقة أني لا أميز مشاعري في هذه اللحظة على الإطلاق! اللحظة التي أكملت فيها عامي الخامس والثلاثين! ليس هناك مشاعر إيجابيةواضحة، وليس هناك مشاعر سلبية واضحة، وإن كنت أشعر إن إقامة مأتم على نقصان سنة من عمري أولى من الاحتفال الذي صار بعض الناس في مجتمعاتنا يفعله، عندما أنظر إلى سنوات عمري المنصرمة فهناك ما يبعث على الفرح، وهناك ما يبعث على الاستياء والإحباط، على أني أدرك أنه ليس هناك تلازم بين مشاعري وبين الحقائق، فقد يكون شعور الإنسان تجاه نفسه سلبيا بينما هو في غاية الإنجاز والفلاح، وقد يكون شعور الإنسان تجاه نفسه إيجابيا وهو من (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) -نسأل الله العافية-

أصدقاء متفكر، اعلموا أني لا أتكلم هنا من موقف الواعظ لغيره، إنما أكتب هذا الكلام كنوع من المشاركة، مشاركة رجل فقد من ثروته العظمى (العمر) نصفها أو أكثر من نصفها- بناءً على العمر الافتراضي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم- هذا إذا أتمها ولم يخطفه الموت قبلها، ولا يدري على وجه الدقة هل أحسن في الاستثمار أم لا، لكنه يتمنى أن يكون ما بقي أفضل مما مضى، جميعنا تتناقص ثروتنا كلما مضى الوقت، كأنك تولد وتُعطى برميلا مثقوبا، فما فيه يتسرب منه باستمرار، سواء نظرت إليه وراقبته أم لا، ومتى نفد منه مافيه سقطت ميتا! وهذا يوضح البلاغة القرآنية العجيبة في إقسام الله بالعصر على أن الإنسان في خسر!، على أية حال إن كان هناك من تفكرات أسطِّرها في هذه اللحظة فهي كالتالي:

التفكر الأول: إنه يمضي ولا يبالي بك، سواء شعرت به أو لم تشعر، سواء أحسنت استغلاله أم لم تحسن، ماض، سائر، منقض، غير عائد، لا يأبه بأحد ولا يلتفت للوراء، لن ينصحك، ولن يحاول إقناعك بأهميته، إنه الوقت.

التفكر الثاني: أن ما سيأتي لن يختلف من حيث سرعته وخفة انقضاءه عما مضى، وكما أن ما مضى لم تشعر به، فكذلك ما سيأتي، وفي القرآن ما يشير إلى هذه الحقيقة الصادمة، (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة!) (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها)، ويقال للمتقين (كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية) فعبّر عنها بالأيام، لا السنين والأعوام، واستخدم لها -من الناحية الصرفية- صيغة جمع قلة، لا جمع كثرة!

التفكر الثالث: لا تصارع الوقت بمفردك فإنه سيهزمك!، لا أحد يستطيع استغلال جميع وقته من الناحية الموضوعية، بل اذهب إلى رب الوقت وخالقه، واطلب منه أن يعينك عليه، وأن يملأه عليك، ويبارك لك فيه، ويلهمك الهدى والسداد في قضاء أفضل حياة ممكنة، وتذكر أن هدفك الأوحد هو العبودية لله بما يحبه ويرضاه، ولا يقتضي ذلك بالضرورة أن يكون جدول يومك ممتلأً بالشكل الذي يسوّقه بعض مدربي تطوير الذات ونحوهم، وركز على جوامع الأمور، فقد جاء عن أبي بكر الصديق- رضي الله عنه-: “ألا إن لكل أمر جوامع، فمن بلغها فهي حسبه” وهي مقولة قررت أن أجعلها دستورا في حياتي بإذن الله.

التفكر الرابع: نحن مسروقون! معظم البشرية في القرن الواحد والعشرين تتعرض لسرقة جماعية كبيرة! سرقة تتم بكامل رضاها، مسروقون من قبل هذه الأجهزة ومن قبل المتحكمين في التسويق والترفيه والإعلان، كل يوم تبدأه تنقض عليك كبرى الشركات العالمية وخبراء التسويق والإعلان ليسرقوا لحظات من وقتك، هذا يسرق لحظات وهذا يسرق لحظات وذاك يسرق دقائق، لكن عندما تصل لآخر اليوم تكتشف أنك جلست على جوالك 5 أو 6 ساعات، ولإني لأفكر في نفسي فأقول: إذا كان من سَبَقَنا من البشر يندمون ساعة احتضارهم على ما مضى من أعمارهم ويشعرون به كأنه فترة قصيرة ومضت- وهم لم يجربوا التقنية الحديثة والأجهزة الذكية- فكيف بنا ساعة احتضارنا! إن حقيقة الوضع عند كثير من البشر الآن أنه صار لا يعيش 24 ساعة في اليوم، بل 18 أو 15 ساعة!

التفكر الخامس: ليس هناك تلازم بين شباب الجسد وشباب الروح. فقد عشت أياما كنت فيها كهلا من حيث ذبول روحي وانطفاء شعلتي، وعشت أياما أخرى ربما كنت فيها أشد حماسا واتّقادا من سني حياتي الأولى! وفي سير الناس نماذج عديدة لمن تفوقوا وبرزوا في سن الكهولة، فلا تكثر من التفكير في انقضاء عمرك إلا بالقدر الذي يحفزك ويساعدك على الإحسان في حاضرك، فإن تعدى ذلك فكفَّ عنه لئلا يتحول إلى أداة هدم ذاتية!

كان الحسن البصري يقول: “ابن آدم، إنما أنت أيام، فإن ذهب يوم ذهب بعضك” لا بد أنه لو رأى الصورة أعلاه لأعجب بها!

أخيراً: ماذا عنكم أصدقاء متفكر! وما الذي توجهونه لي بمناسبة بلوغي هذه السن؟ التهاني أم التعازي؟

رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker


10 آراء حول “متفكر في الخامسة والثلاثين

  1. لا اله إلا الله
    سُئِلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: أيُّ النَّاسِ أفضَلُ؟ أو قالَ: خَيرٌ، شَكَّ يَزيدُ، قالَ: مَن طالَ عُمُرُهُ، وحَسُنَ عَمَلُهُ. قيلَ: فأيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قالَ: مَن طالَ عُمُرُهُ، وَساءَ عَمَلُهُ.

    Liked by 1 person

  2. بل تستحق التهنئة لأن ما مضى لن يعود ولأنك الآن تعي ماذا قدمت وماذا اخرت واصبحت تعي أهمية الوقت وأهمية ما انت مقبل عليه
    وهذا فضل من الله
    وهذا الفضل يؤتيه الله من يشاء.
    وإن من يستحق التعزية حقاً هو من ينتظر هذا اليوم من أجل أن ينفخ في بعض الشموع وليس له أي أهداف ولا إنجازات ولا حتى أن يشعر بأن هذا العمر يمضي سريعاً وأنه محاسب عليه
    كل ما يفكر فيه هو اللهو وكيف يطور من نفسه من ضياع الى آخر
    نسأل الله السلامة.

    Liked by 1 person

    1. تستحق التهنئة بكل تأكيد..
      كيف لا!
      وانت تعلّم الناس العلم الذي ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم وقال كثير من العلماء أن اعلى مراتب ثمرة العلم هي رفع الجهل عن الناس، وكلنا نعلم أن الله سبحانه وتعالى فضّل أبونا آدم عليه السلام بفضل العلم الذي آتاه إياه وأمر الملائكة بالسجود له “وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا” -مع فارق التشبيه-
      نسأل الله أن يطول في عمرك بطاعته سبحانه وتعالى وأن يبارك لك فيه بصحة وعافية وسعادة.

      Liked by 1 person

  3. مثل ماتفضل المغرد السابق، تستحق التهنئة والشكر والتقدير والإحترام من الناس، على كل ذرة خير عملته تجاههم، ولما أضفت لهم الكثير في حياتهم، كان لي الشرف أن أتتلمذعلى يديك في دراستي الجامعية، والله على ما أقول شهيد كنت أتللذ بكل فكرة كنت تطرحها وبكل بحث تقدمه، وبكل معلومة تفتحنا ، وبكل موعظة تحصننا بها، كنت رائعا مخلصا محسننا، نحمد الله على نعمتكم
    ..

    وأما التعزية فهي بينك وبين نفسك، أسأل الله أن يبارك في عمرك على طاعته، ويمتعك بالصحة والعافية، ويزيدك علما وعملا ورفعة في الدنيا والآخرة

    Liked by 1 person

  4. بل تستحق التهنئة شيخنا على ما مضى من عمُرك حيث أتممت دراستك بأعلى مراحلها في آن قريب وقمت بتدريس جيل من أجيال المجتمع وكنت لهم نعم المربي والمعلم في جميع جوانب تعليمهم بما يفيدهم وينفعهم ، فيكفي كونك تعلم الناس الخير
    قال صلى الله عليه وسلم:(فضلُ العالمِ على العابِدِ ، كفَضْلِي علَى أدناكم ، إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ وملائِكتَهُ ، و أهلَ السمواتِ والأرضِ ، حتى النملةَ في جُحْرِها ، وحتى الحوتَ ، ليُصَلُّونَ على معلِّمِ الناسِ الخيرَ).

    Liked by 1 person

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s