يؤسفني أيها الجان!

الحمد لله، أما بعد:

فها هو أسفي يا معشر الجن قد بلغ مني مبلغا ألجأني إلى كتابة تدوينة (أفضفض) بها إليكم عما يؤلمني من بني جنسي، لقد دارت بيننا حوارات كثيرة وقضينا ليالي عديدة وبت وإياكم كالجنود الذين يقفون متقابلين على الحدود في الدول المتحاربة، هم أعداء ولكن تتكون بينهم علاقة ألفة في نفس الوقت!، يسعى كل واحد منهم للنيل من الآخر لكن هذا لا يمنعهم من تبادل بعض النكات المضحكة أو التعليقات الطريفة على سبيل الإيناس، أشعر أيها الجن أن الناس لا زالوا يحصرون تصوراتهم عنكم في حقبة رجل الكهف! أنكم لا زلتم مجرد كائنات بدائية تلقي بوساوس ساذجة ومكشوفة! إنهم يوقنون بالتطور المهول الذي وقع لجنسنا كبشر من لدن آدم عليه السلام، لكنهم لسبب ما يغفلون أنكم تطورتم كثيرا خلال هذه الأحقاب الزمنية الهائلة وبالتالي تطورت وسائلكم وأدواتكم…

يؤسفني أيها الجن: أن يذكركم الله في كتابه العزيز قرابة مئة مرة في سياقات مختلفة، تحذيرا وتنبيها على أثركم في حياة الإنسان وعلاقاته وأفكاره، لكنكم في وجدان الناس أشبه ما تكونون بالخيال، أو مجرد مادة للتسلية والترفيه في الروايات والأفلام!، ربما يقرّون بوجودكم! لكنه إقرار باهت معزول كل العزلة عن أن يمتد إلى أن يكون حاضرا في الذهن بحيث يكون له أدنى أثر في تصرفاتهم! لقد نجحتم نجاحا باهرا في إخفاء حضوركم في الحياة الشخصية لكل أحد، أليس غريبا يا معشر الجن أن تقتضي حكمة الله أن تكون سورة (الناس) أول ما يقابل المؤمن في حياته من كتاب الله، وأول ما يحفظه المسلم بعد الفاتحة، ثم تكون قضية الشياطين ووسوستهم أول ما ينساه المسلم بعد ذلك عند خوضه في هذا العالم المتشبع بالمادة والمحسوس، المعرض عما وراء ذلك!

لقد أمرنا الله صراحة بمعاداتكم (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) فكيف طبقوا هذا الأمر الإلهي؟ لقد طبقوه عن طريق شتيمتكم وجعلكم شماعة وعذرا لذنوبنا لا أكثر! ألا ما أسخفنا من أعداءٍ إذا كنا هكذا!

يؤسفني أيها الجن: أن يحصر الناس أذاكم في صورة أو صورتين كالتلبس ونحوه، ثم يُفنون أوقاتهم في الجدال بشأنها متغافلين عن أن كثيرا منهم إنما هم أسرى لكم في عشرات الصور الساطعة كسطوع الشمس، بعضهم أسرى لكم في الغضب، والغضب من الشيطان، وبعضهم أسرى لكم في العجلة، والعجلة من الشيطان، كما جاء في الأحاديث، وبعضهم يمسك عن الإنفاق تصديقا لكم فيما حكاه الله عنكم- عندما أمرنا بالإنفاق- (الشيطان يعدكم الفقر)، وقد يكون أكثرهم انتشارا في الساحة اليوم هم الذين يعارضون وحي الله بعقولهم، كما فعل إبليس عندما رفض أمر الله بالسجود لعدم منطقيته بالنسبة له!، وللعالم الفذ ابن القيم مقولة تهز الأعماق، يقول فيها: (ولو كُشفَ الغطاء، لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى هٰذه الأرواح الخبـيثة، وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت)

يؤسفني أيها الجن: أن يأتي التحذير الإلهي واضحا ومتكررا في قرآننا ومنهج حياتنا من مفهوم يدعى: (خطوات الشيطان) مع الفرد والمجتمع، ثم تجد الناس لا يفهمون من هذه الخطوات إلا معاني ساذجة وطفولية ينزه كتاب الله أن تكون فقط هي المقصودة من الآية الكريمة، ولا يدرون أن بعض هذه الخطوات لا يتم مع الإنسان والمجتمع إلا عبر عدد من السنوات أو العقود! ولو كان معنى خطوات الشيطان كما يتصورونه لما كان هناك حاجة إلى تكثيف التحذير منه بهذا الشكل في القرآن، لأنه معنى بسيط يدركه أي إنسان عاقل! وقد حكت لنا السنة كيف أن انتقال الشياطين بقوم نوح إلى عبادة (ود وسواع وأصحابهم) استغرق عدة أجيال من التخطيط! يا ترى كيف هو ترتيب خطواتكم في نشر الشهوات، في إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله!

يؤسفني أيها الجن: أن ينقل الله إلينا تفاصيل خططكم جلية واضحة مثل (ولآمرنهم فيلغيرن خلق الله) ثم لا نجد من الناس في زماننا هذا إلا إقبالا مهولا على تغيير أشكالهم واعتراضا وسخطا على خلقتهم التي خلقهم الله عليها، دون أي حرص على تعلم وإدراك الفارق بين الحلال والحرام في هذا الجانب، أي شيء أغرب من أن يأتيك تفصيل جاهز فصيح عن مخطط عدوك لهزيمتك ثم تأتي طائعا مختارا راغبا في تطبيق هذا المخطط! كم أنت مثير للشفقة أيها الإنسان.

يؤسفني أيها الجن: أن يخبرنا الحبيب عليه الصلاة والسلام أن أولى أولوية عند إبليس عند استقباله وفوده هي تخريب العلاقات الزوجية ثم نجد في عالمنا المعاصر ما يشبه أن يكون تواطؤا عالميا على تشويه صورة الزواج والعلاقات الزوجية وتزيين الحب والعلاقات خارج إطار الزواج! في طائفة لا تحصى من المسلسلات والأفلام والروايات!

يؤسفني أيها الجن: أن يذكر الله السحر قرينا للكفر في كتابه العزيز ( وما يعلّمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) ويعدّده النبي عليه الصلاة والسلام ضمن الموبقات السبعة، ثم نجد مسلسلات الانمي وألعاب الفيديو والأبطال الخارقين وغيرها تتفنن في إظهار السحر بأجمل مظهر، به ينتصر البطل على الأشرار، وبه تتزين مجريات الأمور بما يمتع المُشاهد! رغم أن العديد مما فيها قد لا يكون سحرا لكنهم يسمونه كذلك، وبعضها يقدم كسحر حقيقي!

يؤسفني أيها الجن: أن يخبرنا الله بأن في البشر شياطين أيضا، (من الجِنّة والناس)، (شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض) يبثون شرورهم في الخليقة، ثم لا أجد في بني قومي حذرا من هؤلاء الشياطين الإنسية ومن سماع ضلالاتهم أو الخوف على أنفسهم منها، بدعوى الانفتاح و open mind وغير ذلك من الهراء…

على أية حال أيها الجن: لا شيء أشد إراحة لقلب المؤمن من يقينه بيوم الدين، اليوم الذي يحاسب فيه الرقيب المحصي، الشهيد الحفيظ، السميع البصير، كل الظالمين على ظلمهم، ما أشد انتظاري لليوم الذي سنلتقي فيه عيانا لتصفية الحسابات، وعندها… لعلي أذكركم بهذه التدوينة إن شاء الله.

خاتمة: أخرج مسلم وغيره: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ما مِنكُمْ مِن أحَدٍ، إلّا وقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الجِنِّ وقَرِينُهُ مِنَ المَلائِكَةِ» قالُوا: وإيّاكَ؟ يا رَسُولَ اللهِ قالَ: «وإيّايَ، إلّا أنَّ اللهَ أعانَنِي عَلَيْهِ فَأسْلَمَ، فَلا يَأْمُرُنِي إلّا بِخَيْرٍ».

وأخرج أيضا عن عائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ، أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ خَرَجَ مِن عِنْدِها لَيْلًا، قالَتْ: فَغِرْتُ عَلَيْهِ، فَجاءَ فَرَأى ما أصْنَعُ، فَقالَ: «ما لَكِ؟ يا عائِشَةُ أغِرْتِ؟» فَقُلْتُ: وما لِي لا يَغارُ مِثْلِي عَلى مِثْلِكَ؟ فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أقَدْ جاءَكِ شَيْطانُكِ» قالَتْ: يا رَسُولَ اللهِ أوْ مَعِيَ شَيْطانٌ؟ قالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: ومَعَ كُلِّ إنْسانٍ؟ قالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: ومَعَكَ؟ يا رَسُولَ اللهِ قالَ: «نَعَمْ، ولَكِنْ رَبِّي أعانَنِي عَلَيْهِ حَتّى أسْلَمَ»

لقراءة تدوينة عن أول صراع لجنس البشر مع الجن، اقرأ تدوينة 7 تفكرات في قصة الخطيئة الأولى

رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker


3 آراء حول “يؤسفني أيها الجان!

  1. جزاك الله خيرا على هذه التنبيهات ولكن……
    أعتقد أن هناك نقطة في غاية الأهمية لم تذكر وهي أن الجن فيهم المسلم وفيهم الكافر ودائما ما يخطئ العديد من البشر في ذكر الجن على الصفة السلبية دائما (انهم شياطين دائما)

    دمت بود 🌹💐

    إعجاب

  2. ماذا لو أخبرت حضرتك انهم تطوروووا جدا أن شئت نزل السناب شات وضيف حسن بن حبشان الدوسري سترى من القصص ما تشيب له الراس مع العلم اني الان ف رحلة العلاج منهم وفهمت الكثير عنهم بفضل الله ثم الشيخ حسن وابو نايف

    إعجاب

اترك رداً على د. عبدالله بن ياسين بخاري إلغاء الرد