العلاج النفسي بسورة الفاتحة

بسم الله، ثمة شيء يزعجني في أفهام كثير من الناس حاليا، ألا وهو أن لفظة الشفاء عندما تخطر بأذهانهم فإنها تكاد تنحصر في نوع معين من الشفاء، ألا وهو شفاء الأبدان، ولقد كنت سابقا كذلك… فكنت إذا سمعت آيات مثل قوله تعالى (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) لا يخطر ببالي إلا التعافي من الأمراض الحسية. هذا القصور الشنيع في فهم الشفاء القرآني يترتب عليه حرمان المؤمن نفسه من باب عظيم من أبواب بركة القرآن، ألا وهو الانتفاع به في تبديد المخاوف والقلق وسائر الآلام النفسية، والتي بات الناس يعاني منها- في هذا الزمان- أكثر من الأمراض الحسية في اعتقادي الشخصي.

في هذه التدوينة سنمارس- معاشر المتفكرين- تجربةً عمليةً في الاستشفاء النفسي بالقرآن، وذلك من خلال السورة التي يحفظها الناس جميعا ويرددونها يوميا في صلواتهم، لن أطيل، فهيا إلى الرحلة:

(الحمد لله رب العالمين) هذا التركيب اللغوي يقتضي أن جميع أنواع الكمالات والثناءات والفضائل مستحقة وثابتة لهذا الإله، عندما تقول إن الحمد لله؛ فهذا يعني أنه طيب، وأنه حكيم، وأنه قدير، وأنه قوي، وأنه جميل، وأنه جواد، إلى غير ذلك من المحامد. ألا تشعر بالاطمئنان لكون الرب الذي يصرف أمور هذا الكون، الذي يتحكَّم في أقدارك وأقدار من تحب، هو المحمود بهذه الصفات!، يغفل كثير من الناس عن الأعماق الجميلة واللانهائية لكلمة الحمد.

عندما تجمع في قلبك بين استحضار هذه المحامد وبين كونه ربَّ العالمين فثق أن صحتك النفسية ستنمو إلى حد كبير!أستوعبُ قلقك عندما يكون مصيرك أو عندما تكون بعض همومك في يد أحد مجهول لديك، لكن لماذا القلق إذا كانت أقدارنا ومصائرنا بيد من كل الأوصاف الجميلة والمحامد الحسنى جزءا من استحقاقاته سبحانه!

(الرحمن الرحيم) عندما قال أنه رب العالمين سبحانه؛ نجد أن أول صفة تعرف بها هذا الرب إلى خلقه وأجاب بها عن فضولهم المتوقع تجاهه هي صفة الرحمة، أليس في هذه الصنيع ما يزيل عنك كل اضطراب وقلق في نظرك لهذا الخالق وطريقة تدبيره لأمور الكون! فرغم أنه قوي وعظيم وقدير ومجيد وغني إلا أنه لم يجعل هذه الصفات أول ما يتعرف به إلى الخلق في فاتحة الكتاب، بل اختار صفة الرحمة لتكون أول الصفات، فهلا حدثتني بعد ذلك عن كمية الطمأنينة والانشراح، والانجذاب والإقبال، الذي ستشعر به تجاهه!

(مالك يوم الدين) أي يوم الجزاء، إن آلامك التي تقض مضجعك وجراحك التي تنزف الآن لن تذهب سدى، ستتلقى عنها من جبر الخاطر والتعويضات الهائلة ما لا يخطر بالبال، كل ذلك في هذا اليوم الذي أنت سائر إليه وتقترب منه في كل ثانية تمرُّ، كلما أدمنت تذكر يوم الدين كلما خفَّت عليك آلامك! تخيل إنسانا يقف بين يدي الله في صلاة الظهر، فإذا قرأ هذه الآية استحضر أن كل المواقف السيئة التي مرت به في الصباح سيجازى بها في يوم الدين، وكل من آذاه في الدوام أو الجامعة سيقف أمامه يقينا في يوم القصاص ليقتص منه قصاصا بمثاقيل الذر!، وهكذا دواليك، صدقني أنك إذا أدمنت التفكر والتيقن بيوم الدين مع كل ركعة تصلي فيها فستحصل على إزالة تلقائية ودورية لكل الأحزان التي تثقل روحك.

(إياك نعبد) هذه آية الحرية والتحرر من بقية الخلائق، أي نخضع لك ونتذلل إليك ونطلب رضاك أنت فقط يا ألله ولا أحد غيرك!، إن من أكبر أسباب الشقاء النفسي الالتفات والتطلب لرضا المجتمع أو بعض الناس عنك!، لست مضطرا إلى طلب مرضاة أحد سواه، لست عبدا لأحد إلاّه، لو سخط عليك الكوكب كله فليذهب إلى الجحيم، لا تحزن ولا تضطرب لأنهم غير راضين عنك، أو لأنك ينظرون إليك بعين النقص، لأنك لست مهتما بنظرة أحد إليك إلا الله وكفى!

كذلك عندما يردد المؤمن المتفكر هذه الآية فإنه سيتذكر هدفه الأساسي في الحياة؛ وهو العبودية، وكلما غاص المؤمن في هذه الغاية وهذا الطموح، كلما غطّى عليه أفقه وتبين له تفاهة الأشياء الأخرى التي أخذت بشعبة من شعاب قلبه في يوم من الأيام، من منصب أو مال أو مكانة، بحيث تعود إلى مكانها الطبيعي واللائق بها، ولا يخفى على القارئ أن جزءا كبيرا من أحزان الناس وآلامهم الداخلية يعود إلى تعلقهم بهذه الأمور الدنيوية وغفلتهم عما خلقوا لأجله.

(وإياك نستعين) هذه آية القوة، يجب أن تؤمن بضعفك، لكي تنتقل إلى مقام الاستعانة عقب ذلك، ومكامن الراحة النفسية بين هاتين النقطتين، أنت ضعيف بدونه، أنت عاجز من غيره و( لن تجد من دونه ملتحدا)، أنت لا حول لك ولا قوة إلا بهذا العلي العظيم سبحانه، (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله) بقدر ما تستوعب ذلك ثم تضيف إليه الاستعانة بقدر ما سترتاح في هذه الحياة، دعنا نعد إلى صلاة الظهر التي ذكرناها قبل قليل، عندنا مهام يومية تثقل كواهلنا، ماذا لو وضعناها بين يدي الله؟، عندما تناجيه فتقول إياك نستعين، فخاطبه بقلبك بهذه المهام اليومية وغيرها واطلب قضاءها منه بقولك (وإياك نستعين) ثم حدثني بعدها عن كمية الراحة والتخفف الذي ستشعر به، ثم حدثني بعدها مرة ثانية عن العون والبركة الذي شعرت به حال قضاءك لهذه الحوائج! وهذه الثمرات النفسية الهانئة يعرفها من جرب الاستعانة، وهي تزيد وتتعاظم كلما أدمن المؤمن الاستعانة بالله في صغير الأمور وكبيرها، إنك لتلقى الشخص صاحب الحاجة من حوائج الدنيا مرتاحا فتسأله فيقول لك: واسطتي فلان، أو معي فلان، من عظماء البشر، فكيف بشخص يلقي همومه بساحة القادر المقتدر القدير سبحانه!

ختاما: هذه بعض التفكرات عن الآثار النفسية العظيمة لتدبر سورة الفاتحة، وليست للحصر، ويفتح الفتاح سبحانه على كل من أقبل وتدبّر كتابه العظيم بما يناسب حاله، فأين المتدبرون! وهل عندكم بعض الآيات التي شعرتم بأنها بلسم لجراحكم وشفاء لآلامكم؟

رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker


6 آراء حول “العلاج النفسي بسورة الفاتحة

  1. مساء الخير يامتفكر بعد غيابٍ طال انتظاره
    “وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا فأغشيناهم فهم لا يبصرون”، كمية الراحة بعد قراءة هذه الآية لا توصف، كلما رددتها وقت خوفي شعرت بأن خوفي يتبدد فسُبحان من يبعث في نفوسِنا الراحة لمجرّد أننا ذكرناه فكيف اذا رُزقنا بكل ماوعدنا به؟

    إعجاب

  2. الحمدلله على فضله ونعمته،
    في الواقع أن بعض هذه المعاني كنت جاهلا لها فجزاك الله خير الجزاء على هذه المدونة، ومن فضل الله علينا أن جعل هذه السورة ركنا من أركان الصلاة (لاتصح إلا بقراءتها في كل الركعات).
    ويقول تعالى: “وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ” فوصفت الفاتحة بأنها السبع المثاني والقرآن العظيم أي باقي السور.
    وبالنسبة للسؤال فأن من أكثر السور اللي تساعد على جبر الكسر هي سورة يوسف، التي كانت تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ومواساة له، وهي التي وصفت بأنها “أحسن القصص” فكيف بمن ذاق المر في طفولته من إخوته ومن ثم ظلمه وإدخاله السجن بضع سنين، حتى إنتهى به الأمر بأن أصبح حاكماً.

    فاللهم أجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء همومنا إنك على كل شيء قدير.

    إعجاب

  3. شكرا على الشرح الدقيق، فعلا القرآن الكريم هو علاج نفسي، فهو الباب الواحد الذي يدخله المومن بدون أخد موعد مسبق، والعلاج بالمجان و الاكثر من ذلك أنت من تأجر,

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s