بقية من عطر الوالد رحمه الله

الحمد لله، في غَمرة عيد الفطر، احتجتُ إلى دخول أحد حمَّامات الطابق السفلي في بيت العائلة، وأثناء خروجي منه حانت مني التفاتةٌ نحو الطاولة الموجودة في الحمام فأبصرتُه…

كان عطراً أهديتُه للوالد رحمه الله في العيد الذي قبل وفاته، أو العيد الذي يسبقه- لا أذكر- كان العطر ثابتا في مكانه قد نسجتْ عليه خيوط الدهر كساءً جميلا من البهاء والرونق، كان جميلا جداً، أجمل مما هو عليه في الواقع، نظرت إليه ثانية أو ثانيتين لكنها كانت في كوني الخاص كساعة أو ساعتين، بقي منظره أثيراً في نفسي، وقررت أن أستأذنَ إخواني وأمي في أخْذِه.

بعد وفاة الإنسان تغدو كل هذه الأشياء ذات قيمة عُظمى في نفس المُحِبّ، ربما لأن المحب لا يستطيع أن يستبقي قطعة من جسد المحبوب، فكلها تدفن، وبالتالي لا يبقى له إلا هذه الأشياء المادية المحسوسة التي كانت تباشر جسد محبوبه، غير أن هذه الأشياء مختلفة في أثرها على النفس!، لا أحد منا -أولاد ياسين وزوجه- رغب في الاحتفاظ بعكازيه! ربما لأنهما كانا رمزا لمعاناته مع هشاشة العظام التي ألقته طريحا على السرير في فترة مبكرة نسبيا من حياته! بخلاف بعض متعلقاته الشخصية كالخاتم والساعة…

أتفكر فيسبح خيالي في عشرات المرات التي التقط فيها العطر فقام برش رشّات منه على ياقته وصدره ورقبته، أراه يتجهز لمناسبة مهمة، وبعد أن قام بأخذ أبهته، وسرَّح شعره- لم يكن الوالد ممن يغطي شعره- شَرَعَ يبحث حوله عن عطر طيب الرائحة يستكمل به زينته الظاهرة فاختار عطري ليرش منه😊، وبقاء هذه الكمية البسيطة منه، مع استحضار قله مناسباته التي كان يخرج لها بحكم مرضه؛ يدل على أنه نال استحسانه وإعجابه، وذلك أن له عطورا أخرى لا أراه استهلكها إلى هذا الحد. كم بخّة قام برشّها، فكّرت في الموضوع وقرأت أن العطر الذي يحتوي على 100 مل يمكن أن يرش 1470 مرة، وحيث إنه قد تبقى من الزجاجة ثلثها، فيمكن أن نقول على وجه التقريب إنه قد رش ألف مرة ولله الحمد، ثم بحسب العدد الذي كان يكفيه للتعطر يكون عدد مرات الاستخدام.

في البداية خشيت أن يكون استئذاني للورثة في أخذ العطر صورةً من الصور الداخلة في معنى حديث (العائد في هبته كالعائد في قيئه)، فأنا أهديت الوالد العطر، والآن عاد العطر إلي، ولكسلي عن مراجعة المسألة، وتحاشيا للوقوع في الهوى عند البحث، طرحت الإشكال على اثنين من قروبات الواتس العلمية، واستبعد كل من شارك في مذاكرة المسألة أن يكون للصورة التي طرحتها دخول في معنى الحديث ثم أتى بعضهم بحديث صحيح يقطع الشك في المسألة، (يحكي قصة امرأة أهدت إلى أمها جارية، ثم إن أمها ماتت، فأفتاها النبي صلى الله عليه وسلم بعودة جاريتها إلى ملكها بحكم الميراث)، فاطمأننتُ إلى صحة موقفي بحمد الله، وبالمناسبة؛ بعض الناس يظن أن الهوى في بحث المسائل العلمية محصور في هوى الشهوة أو المال مثلا، ولا يدري أن الهوى يشمل أي ميل مسبق من الباحث نحو نتيجة معينة يتمناها، حتى إن كان هذا الميل جميلا أو نبيلا في ملامحه العامة!

بعد ذلك انتقلت إلى مرحلة الاستئذان من الورثة، وبلا شك مارس بعض إخواني هواياتهم المتوقعة وحاولوا مماطلتي في التنازل عن نصيبهم من العطر- كنوع من الترفيه عن أنفسهم بالتلاعب في أحاسيسي المرهفة- لكني أخذت العطر في النهاية.

وضعته بجواري على (الكومودينو) الذي بجوار سريري، أخلع غطائه بين الفينة والأخرى لأقوم بتشممه…

لماذا لا أرش؟ لأني أخاف أن ينفد، لماذا أرفض أن يرش أطفالي؟، لأني أخاف أن ينفد، فكأن الرشة الواحدة منه ستستهلكه بلا رجعة!

كان والدي قليل الشراء لنفسه فيما يخص مشتريات العيد، كان يحب أن ينفق على غيره لا على نفسه، وكنا إذا اشترينا له مثل هذه الأغراض يشفق علينا أحيانا من قيمتها، رغم أننا كبرنا وصرنا موظفين، ويرى أن صرفها في بقية احتياجاتنا أو الاحتفاظ بالمال أوْلى من شراء هدية له، ولا يتنافى هذا مع فرحه بالهدية في قرارة نفسه، لمن يدرك تعقّد النفس البشرية بطبيعة الحال!

كان والدي من من النوع الأول في الهدايا، لا الثاني، ولا الثالث، ذلك أن الناس في التهادي على ثلاثة أقسام، فالأول الذي يرفض أن يحدد لك نوع الهدية أو جنسها، ولا يحب إخطاره مسبقا، وكأن عنصر المفاجأة عنده أهم من موافقة الهدية لاحتياجاته المسبقة أو رغباته، والنوع الثاني الذي يقبل أن يحدد لك جنس الهدية فقط، وعليك مسؤولية اختيار النوع، أي أنه يخبرك برغبته في ساعة أو لوحة فنية مثلا، وعليك أنت أن تبذل جهدك في اختيارها بنفسك، أما النوع الثالث (وهو يمثلني جدا جدا)، فهو الذي يسألك عن الميزانية المرصودة للهدية، وبناءً عليها يحدد لك شيئا معينا يرغب فيه من فترة لتنال أنت شرف شرائه وإهدائه له، وحيث إني أعشق الوضوح والصراحة، وأكره أن يؤول الأمر بالهدية إلى أن تكون قطعة منسية في زوايا البيت، فإني أفضل هذه الطريقة في التهادي، لكني أَقرُّ أنه لا يمكن ممارستها مع الناس الذين تربطك بهم علاقة رسمية وهناك نوع رابع، أذكره لغرابته، وهو من يكره أن يُهدى إليه، ومنهم صديقي د. ياسر السديس، فلقد رأيتُه مرارا في حالة من الضجر والانزعاج كلما أهدى إليه أحدهم هدية، وله فسلفة في ذلك، شرحها لي مرارا، ومن بعدها لم أُهدِ له هدية على الإطلاق، مراعاة لمزاجه، وللناس فيما يعشقون مذاهب!

نعود لعطر الوالد، ماذا سأفعل به؟ في الحقيقة، لا شك أني سأستدفئ فترة من الزمن بكمية الذكريات المتوهجة من العطر، كما أني سأحاول أن أستثمر هذه الرؤية في توجيه دعوة له رحمه الله كلما رأيته فتبعثرت الذكريات في قلبي، ولن أجعل العطر في مكان بارزبحيث أراه بكثرة، لأن كثرة رؤيته ستذهب وهجه الذي يتوهج به حاليا كلما رأيته، فكثرة المساس تفقد الإحساس كما يقول أهل مكة، ولربما أموت أنا قبل أن ينفد العطر، ولعل بقية العطور في البيت أن تنفد قبل أن ينفد العطر، وماهو إلا فراق مؤقت حتى يجمعني به الرحيم الرحمن بكرمه ولطفه في جنات النعيم آمين.

ختاما: ماذا عنكم أيها المحبون؟ وهل أنتم أيضا ممن يحتفظ بشيء من بقايا والديه أو أصدقائه بعد رحيلهم؟

رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker


9 آراء حول “بقية من عطر الوالد رحمه الله

  1. مساء الخير يامتفكر ، لدينا سجادتان احداهما حمراء والاخرى يغلبها اللون الاخضر وكنت أتساءل دومًا لمَ نحتفِظ بهما فهما قديمتان جدًا ومنذ بدأت اميّز ما أرى وأنا اراها في منزلنا وأرى أمي وأبي يصليان عليهما ، وذات مرة كان أبي يتحدث وكان موضوع حديثه هذه السجادتان وعلمتُ حينها لمَ أمي وأبي يحتفظون بها كل هذه السنين فهي هدية من جدتي لأمي وقد توفّيت قبل أن تلدني أمي 😔 ، فأنا لم أحظى برؤيتها او بدفئ حُضنها ، ولكن أصبحت هذه طريقتي في وصلِها كلما صليت في غرفة أمي وأبي ♥️♥️

    Liked by 1 person

  2. علّق أحد مشايخي على المقال بالأعلى رافضا ذكر اسمه:
    مقالة جميلة….. ارجعتنا لذكريات والداي رحمهما الله…… ورحم الله والدك….. أتذكر في أحد الأيام أنا ووالدتي رحمها الله نتفحص بعض المقنيات في البيت لإخراج ماليس له لزوم وإذا بها فجأة تهلل.. وتهلل بصوت حزين فقلت لها مابك؟ فرأيت في يدها نظارة فقالت بحزن نظارة أمي رحمها الله… ورحم الجميع…. أقول وقد اهدتني قبل موتها هدية بسيطة مما يوضع في السيارات.. ويعلق… المهم علقتها بالسيارة وكنت سعيدا بها حتى قطعها ابني… وتأثرت لذلك…. المهم إلى الآن عندما أرى مايخص أحد والداي فجأة تثور في النفس الذكريات… الآهات… الآلام… رحم الله الجميع

    Liked by 1 person

  3. يقول بعض العلماء أن الأشياء التي تذكرك بأعز إنسان لك من الأحسن أن لا تحتفظ بها لإنها تزيد من المك وحزنك، يكفي أن تتذكره بالدعاء والصدقة عليه. وفعلا هذا ما يحصل، انا فقدت أخي في عز شبابه احتفظ بصورته لكنني لا استطيع النظر إليها، وكل شي يخصه لأنني لا اتمالك نفسي بالبكاء عليه ، رحمه الله ورحم كل موتانا.

    Liked by 1 person

  4. رحم الله والدك ورزقه أعلى درجات الجنان.
    أتذكر عندما توفت والدة أبي التي كانت تملك إبريق شاي صغير جداً كان الشاي لذيذا فيه، ولكن بعد وفاتها -رحمها الله- لم يعد الطعم المميز موجود، فلعل الشيء ليس مميزا ولكن التميز في مستعمله.
    توجد حكمة في الموضوع لكن لا أعلم أينها 😅

    Liked by 1 person

  5. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    حسنا
    كما قلت لن أكتب إلا مهما متعلقا بالموضوع
    ما هي فلسفة الشيخ ياسر
    فضلا
    فإنني أموت تطفلا وتطلعا لمعرفتها😂
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    إعجاب

أضف تعليق