اعترافاتي

بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، أعترف أني في مقتبل حياتي كنت من النوع الذي لا يقبل الخسائر، على الإطلاق…

وكنت أظن هذا من محاسني وكمالاتي، وأقصد بالخسائر هنا: الإخفاقات الذاتية، والفشل في نيل الهدف الذي يرسمه المرء لنفسه…

كنت متعودا على وضع الهدف، ثم السعي الحثيث، ثم تحقيقه، ولأني كنت لا أتقبل الخسائر، فقد كنت أرفض خوض التجارب غير واضحة النهاية، لأن الفشل عندي غير وارد، كما أن الانسحاب مرفوض كذلك!

إلا أني اكتشفت مع تقدم العمر أني كنت مخطئا في فهم الحياة، وأن عدم تقبل بعض الخسائر في حياتي أوقعني في خسائر أكبر (لا سيما على الصعيد النفسي الداخلي)، واكتشفت أن هذه الآفة- آفة عدم تقبل الخسائر- كثيرا ما تختص بالنجباء والذين يشار إليهم بالبنان! وللنجباء من الناس آفات تختص بهم دون غيرهم!

إن تكرر الفشل والسقوط والخيبة جزء لا يتجزأ من الحياة الرائعة، هل يمكنك ان تتخيل شخصا يريد أن يخوض حربا كبيرة ويريد الانتصار فيها دون خسارة أي جندي أو دبابة أو مدينة أو معركة؟ هذا أولى أن يُذهب به إلى الطبيب النفسي بدلا من أن يقود الحرب! وهكذا حال بعضنا مع الحياة للأسف!

كان يلفت نظري في سير بعض من استشهد من الصحابة رضوان الله عليهم أنهم عندما كشفوا جسده وجدوا به بضعا وستين أو بضعا وسبعين أثَرَاً ما بين طعنة رمح أو ضربة سيف! هل ترى هذه الضربات السبعين!؛ فإن هناك مثلها من الندوب والجروح النفسية في قلب وعقل كل ناجح ومثابر!

وإنك لتتفاجأ عند سماع قصص كبار الأثرياء أنهم لا يخلون من تلقي صدمات قوية في مسيرتهم بعضها أوصلت بعضهم لحالة الإفلاس أو قريبا منها! أي أنها صدمات وإخفاقات في جانب قوتهم وإبداعهم الذي امتازوا به عمن سواهم! فالحاصل أنه مبدأ لا بد أن تجد مصداقه في حياة الناجحين، لكن المشكلة أحيانا أن الناجحين لا يُطلعون الناس على هذا الجانب الخفي من حياتهم، أو لا يحبون أن يطلعوهم!

وأكبر شاهد لهذا المبدأ- مبدأ الخسائر الحتمية- من شريعتنا هو قضية الذنوب! فلقد أخبرنا الله ورسوله أننا سنقع، ثم سنقع، ثم سنقع! وأن الفلاح الحقيقي هو في عدم الاستسلام، بل التوبة تلو التوبة ومجاهدة النفس على ذلك حتى يتصف الإنسان بصفة الأوّاب، يقول الله في صفة أهل الجنة (هذا ما توعدون لكل أوّاب حفيظ)، لاحظ أن تكرر الأوبة والرجوع يستلزم تكرر الغفلة والسقوط!، وقد جاء في الحديث: (والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ، فَيَغْفِرُ لهمْ)، بل قد ذكر بعض أهل العلم كابن تيمية وابن القيم أن الإنسان قد يعود بعد الذنب أفضل مما كان قبله!

وفضلا عن قضية الذنوب؛ فإن نصوص الوحيين حافلة بذكر أوصاف الإنسان من الضعف والعجلة والجهل والجزع وغير ذلك مما يلزم منه وقوع الخطأ والإخفاق والفشل من هذا الإنسان وإن كان صاحب همة عالية وطموح نبيل!

ولست أعني بالخسائر الحتمية هنا ما يقدره الله على الإنسان من مصائب خارجية، فهذه أمرها واضح، وإنما أقصد الفشل الذاتي والقصور والغفلة التي تعتري الإنسان، فهذه كلما تقبلها الإنسان كلما كان أسرع في النهوض! إنها جزء من إنسانيتك، مثل لحمك ودمك وبقية أعضائك، وكل من يثير إعجابك من عظماء البشر مثقلون بها! لكن السائد في كتب التراجم والسير، التراثية منها والمعاصرة أنها تقتصر على تسليط الضوء فقط على مكامن قوتهم -للأسف-، وإني لأجزم أن العديد ممن حولي لو كتبنا عنه- بدون علمه- بضعة أسطر مركّزة واقتصرنا فيها على ذكر محاسنه ومحامده دون صفاته السلبية وصفاته العادية ثم عرضناها عليه فسيشهق هو بنفسه انبهارا من العظمة!

وقد يقول قائل: وماذا لو لم يقتنع الإنسان بفكرة الخسائر الحتمية؟

فجوابي أن هناك مساران لك: المسار الأسوأ: أنك حين تغفل عن التعايش مع فكرة الخسائر الحتمية فستصاب بخيبات أمل متكررة كلما اصطدمت بإحدى هذه الخسائر (التي ذكرنا أنها حتمية)، هذه الخيبات قد تتراكم وتتعاظم حتى تصيبك بالاكتئاب الشديد فتعتزل نفسك أو المجتمع وتتخلى عن طموحاتك وأحلامك بالكلية! وأما المسار الأقل سوءا؛ فهو أنك ستتجرع هذه الصدمات، وتتلوى منها ألما في كل مرحلة من حياتك، وتؤثر على مزاجك النفسي، وقد تترك ندبات وآثارا دائمة على روحك، لكنك تستمر في المسير في الحياة مثقلا بها، وقد تبطيء سيرك، بينما لو اقتنعت بحتميتها وتقبلتها داخليا فسيكون أثرها السلبي من الإحباط والندم وجلد الذات أقل إيجاعا لك، وستكون أسرع في النهوض كلما عرضت لك! فضلا عن الفوائد والدروس التي تستطيع التقاطها مع كل سقطة، وكما بدأت التدوينة باعتراف فإنني أود تسجيل اعتراف في ختام هذه التدوينة فأقول:

لا أستطيع تخيُّل نفسي حاليا بدون عشرات أو مئات السقطات التي مُنيت بها في هذه السنين، وإني حين أنظر إلى عبد الله في الماضي، عبدالله الذي وصفته في بداية التدوينة، أجده شخصا صارما إلى حد القسوة، في حق نفسه قبل غيره، وأحمد الله كثيرا أن عافى عبدالله الحالي منها، عافاه منها بسبب هذه السقطات، والغفلات، والانهيارات، والتفاعلات الرشيدة وغير الرشيدة التي حصلَتْ له معها رغم ما احتوته من آلام.

خاتمة: قال ابن القيم رحمه الله ملخصا كل ما سبق: (لا بُدَّ مِن سِنَةِ الغفلة، ورقادِ الهوىٰ، ولٰكِنْ كُن خفيف النَّوم)، والسِّنة هي النعاس.

والآن أنتقل إليكم أيها المتفكرون! هل اقتنعتم بحتمية الخسائر؟ وهل عندكم اعترافات تودون مشاركتها؟

رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker


اكتشاف المزيد من

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


7 آراء حول “اعترافاتي

  1. كلام جميل لكنني أرى اننا الان في هذه الحياة الدنيا لا نستطيع أن نجزم بأن فلان خاسر اورابح بل من لا يتمكن رغم سعيه لتحقيق أهدافه يمكن أن نعتبره قد فشل في ما يسعى اليه وقد يكون الفشل في أمر يقبل إعادة المحاولة في ذات الأمر لتحقيق النجاح طالما كان لدي الشخص العزيمة والإصرار على النجاح وطالما كان ثقته بالله كبيرة اما الخسارة اذا جاء وقت جرد الحساب فلا يمكن للخاسر ان يعوض خسارته يقول الرسولُ -صلى الله عليه وسلم-: “تَدرون ما المُفلِسُ؟!”. قالوا: المُفلِسُ فينا من لا دِرهَم له ولا متاع، فقال: “إن المُفلِسَ من أمَّتي يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي وقد شتَمَ هذا، وقذَفَ هذا، وأكَلَ مالَ هذا، وسفَكَ دمَ هذا، وضرَبَ هذا. فيُعطَى هذا من حسناتِه، وهذا من حسناتِه، فإن فنِيَت حسناتُه قبل أن يُقضَى ما عليه أُخِذَ من خطاياهم فطُرِحَت عليه، ثم طُرِح في النار”. رواه مسلم ولا شك أن هذا هو الخسران .

    Liked by 1 person

  2. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    أظن أنني لو علقت على كل مقال بكل ما جال بخاطري من أفكار، فنحتاج إلى إنشاء مدونة ضخمة جديدة، ملحقة بهذه، والله يعلم أنني ما علقت أبدا بكل فكرة خطرت، بل قد أقتصر على بعضها، كراهة التطويل والإملال، لذا سأكتفي بالإعجاب من الآن إن شاء الله، والتعليق فيما يهم فقط.
    خاصة أنني تعبت من التعليق.
    بارك الله فيك، ونفع بك، وزادك علما وهدى ورشادا، وجمعنا في عليين في جنات النعيم.
    دم طيبا زد في تقى،
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    Liked by 1 person

اترك رداً على منذر البشري إلغاء الرد