طبقات الزَّيْف

بسم الله، هناك كثير من النماذج المثيرة للشفقة حولنا في الحياة، لكن أكثرها ندرةً في الحديث عنه هو نموذج الإنسان المعاصر الهائم بالحسناوات اللواتي يظهرن له في شاشة جهازه بأعداد متزايدة، بشكل يُشعره بأن البشرية الآن تعيش في أزهى عصورها من حيث زيادة نسبة الجمال في بنات آدم!

هذا المسكين تتكاثف على عينه عدة طبقات من الأكاذيب والتزييف يحتاج إلى تقشيرها واحدة واحدة حتى يعيش حياةً واقعيةً هانئةً بعيدةً عن السراب والأوهام، وحتى يُقلع عن ظلم زوجته البائسة، فما هي هذه الطبقات الخادعة!:

الطبقة الأولى: الميك أب: كنت أظن أن أدوات الزينة هذه تساعد على توريد الخدود وتلوين الشفاه لا أكثر، ويبدو أن تصوري هذا مرتبط بأيام مراهقتي، إذ اكتشفت بعد الزواج أن القوم قد قطعوا سنوات ضوئية في هذا المجال، لقد صار بالإمكان الآن بناء وجه كامل من هذه الأدوات، مثل لون الجلد ومظهره، وشكل الوجه وحجم الأنف، وغير ذلك، أما أثره في تجميل العين والحاجب، فأظن أن سحرة فرعون- الذين قاموا بسحر عيون الناس لتتخيل الحيايا- لو رأوه لوقفوا صفّاً يصفقون انبهاراً لصنّاع المكياج، ولقد أرتني زوجتي مقطعا لرجل أفطس الأنف مشدود العينين أمسك بهذه الأدوات، وما زال يعمل بها حتى تحول في نهاية المقطع ذاته لامرأة باهرة الجمال! وهذا من الأمور التي قد لا يصدقها الإنسان إلا لو رآها، رجل أقل من عادي يتحول إلى شابة حسناء بفعل هذه الأدوات فقط!

الطبقة الثانية: طبقة البرامج: أرأيت ما ذكرته لك سابقا عن أدوات الزينة؛ فإن قدرتها على التلاعب بالحقيقة وتغيير الواقع لا تصل إلى عُشْرِ قدرة هذه البرامج! كانت هذه البرامج أيام مراهقتي حِكراً على من لهم نوع خبرة في استخدام الكمبيوتر، الآن صار بمقدور طفل في الصف الابتدائي أن يقوم بإدخال عشرات التحسينات على الصورة!، تناولت طعام الغداء في أحد المطاعم قبل سنوات مع بعض العائلة، والتُقطت لنا صورة بهذه المناسبة، عندما أمسكت الجوال لأرى الصورة فوجئت بوجهي أوسم مما أعهده بشكل ملفت!، لقد زالت الحبوب التي أشتكي منها، وصارت بشرتي صافية كأنما خلقها الله للتو، واحمرَّ ثغري، فسألتُ قريبتي وفاجأتني بأن هذا هو الفلتر (الافتراضي) في (السناب)، أي أن نسبةً من الجمال قدرُها 25% -على سبيل التقدير- تحصل تلقائيا بمجرد التقاط الصورة وقبل البدء في التعديلات الاحترافية!، فأي زيف هذا، وقد قرأتُ في تويتر مشكلةً من المضحكات المبكيات، لعروسة تروي قصتها بنفسها، حيث لاحظَتْ نفوراً واضحاً من زوجها بعد الزواج مباشرة، وعند مكاشفته والإصرار عليه كَشَف المسكين أنه تقدم لخطبتها بعد أن اغترَّ بشكلها في السناب! حيث كانت تحرص على التقاط الصور من زوايا معينة مع مراعاة ضوء الشمس، إلخ، وأنه اكتشف بعد العقد أن الواقع مختلف!

الطبقة الثالثة: عمليات التجميل: وهذا عالم آخر مستقل بذاته، حيث يتم تصغير الكبير وتكبير الصغير، والشذ والجذب، إلى غير ذلك من قائمة طويلة متفرعة، وصارت تجارة رائجة، وتحول العديد من الأطباء إلى تجار لا يفرقون بين ما أحل الله وما حرمه، ولا يبالون أن يكونوا من أدوات الشيطان الكبرى في خطته (ولآمرنهم فيلغيرن خلق الله)، ولا شيء يحزنني- كما أشرت- أكثر من الزوجة المسكينة التي ينظر زوجها إليها وهي في حالتها الطبيعية التي خلقها الله عليها، تنام وتصحى، وتكافح وتتعب، وتجتهد في التجمل وفق المتاح لها، ثم يقارنها بتلك التي على الشاشة التي زيَّفتْ حقيقتها بهذه الطبقات الأربعة من التزييف، والتي تمتلك جيشا من الخبراء يعينها على كل طبقة من هذه الطبقات!، وقد قرأت قبل فترة قصة طريفة عن رجل رفع دعوى قضائية على زوجته، وذلك أنه تزوجها ظانا أنها على شكلها الذي خلقها الله عليه، فلما أنجبتْ له طفلا على شكلها الأصلي صُدم واكتشف الحقيقة، وأنا أظن أن المجتمع الذي يصل به الحال إلى تلك الدرجة سيكون من المعقول فيه أن يطلب الشاب عند تقدمه لخطبة بنت شهادة صحية تثبت أن ما يراه أمامه هو الحقيقة الأصلية بدون تزييف 😁.

الطبقة الرابعة: التحكم في معايير الجمال: هناك فئة محدودة جدا من البشر، تملك من الصلاحيات، ودور الأزياء، وشركات الإنتاج، ما يعطيها القدرة على الفرض الناعم لمقاييس الجمال الخاصة بها على 9 مليارات من البشر!، لقد قرروا أن شفاه البطة (أعني الشفاه الغليظة) هي شيء جميل، فصارت النسوة يتهافتن على تكبير الشفاه، وهكذا…وقد شرحت هذا في تدوينة مستقلة هنا طواغيت الجمال، والذي يعني أن ما تراه جميلا اليوم قد لا يكون جميلا بالضرورة لذائقتك الخاصة الفطرية، ولكنك تتعرض باستمرار لغسل دماغ مكثف يجعلك ترى الجمال فيما يقرر ملوك الموضة أن يجعلوه جميلا!

أخيرا: عزيزي الشاب، قبل أن تفتتن بتلك المرأة على (الانستا) حاول أن تزيل هذه الطبقات الأربعة، وستكتشف غالبا أن المرأة التي فُتنتَ بها ليست سوى امرأة متوسطة الجمال أو أكثر من ذلك بقليل، وأنها لن تختلف كثيرا عن بعض النساء اللواتي حولك في وسطك الذي تعيش فيه! ارفق بنفسك الضعيفة التي تنتقل من سراب إلى سراب، ومن خيال إلى خيال، ولقد أراحت الشريعة المسلم من عناء هذا كله عندما أمرته بغض البصر، فأين المتفكرون في محاسن الشريعة! وما سبق ذكره ينطبق بطبيعة الحال على الفتاة المفتونة بصور الشباب.

رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker


اكتشاف المزيد من

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


4 آراء حول “طبقات الزَّيْف

  1. جزاك الله خير الجزاء على هذه المدونة🌹
    إن أكثر ما يجب أن يتمناه الإنسان هو السير على الحق والثبات عليه، ولكن ماهو سبب هوس الكثير بتغيير خلقة الله-سبحانه وتعالى- وعدم الرضا أو القناعة (لعله يصلح أن يكون عنوانا لمدونة قادمة يكتبها فضيلتكم)
    وبلا شك أن الواجب شرعا هو غض البصر والاحتشام.

    Liked by 1 person

  2. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    جميل جدا
    أعجبتني وبشدة
    علقت -وإن كنت لا أعلق غالبا إلا ثناء وتشجيعا- لأجل الثناء والتشجيع، نعم، ولم لا، فتكرار الثناء لا يفيد المجاملة، بل إن ثنائي صادق نابع من سويدائي، وإنني لأفضل التدوينات التي تصطبغ بالصبغات الشخصية، والتي يتميز بها الإنسان عن الذكاء الاصطناعي، على تلك التي تحشد المعلومات حشدا، مقدمة إياها في صورة باردة.
    أحب التدوينات المفكرة، التي تسترعى انتباهي، وتستحث فكري، أحب أن أعرف أنه ما زال على هذا الكوكب عقلاء أشاركهم الرؤية، وأوافقهم الرأي.
    والحمد لله أولا وآخرا
    وهذه التدوينة بالذات سأشاركها بإذن الله مع من أستطيع، فهي جيدة حقا🙂.
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    Liked by 1 person

    1. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
      سرني أنها أعجبتك أخي منذر،
      ويسرني أكثر معرفة أن هناك من يطرب لأساليبي أو تنظيراتي أكثر من غيري،
      هؤلاء تتكون بيني وبينهم أخوة خاصة، (أخوة فكرية) إن صح التعبير،
      جمعني الله بك في دنياه وأخراه

      Liked by 1 person

اترك رداً على ahmedalmoataz إلغاء الرد