فلسفتي في الهموم

بسم الله، أشرت في تدوينة قانون المعاناة الكوني أن الهم جزء أصيل من حياتنا لا يمكن بتره، وبالتالي فمن الأفضل لنا أن نتفهّمه ونتأمّل فيه لكي نصل إلى الصيغة المثلى في التكيف والتعايش معه، ولقد تفكّرتُ مليّا في الهم وإخوانه من القلق والحزن وغيرهم، وخرجت بملحوظات أحببت مشاركتها معكم، لا أدري إن كنتم توافقونني عليها أم لا، ولذلك سأترك لكم خانة التعليق في النهاية! (صحيح أن معظمكم يتكاسل عن كتابة التعليق، ولكن يكفيني الاثنان أو الثلاثة الذين سيبادرون)، وإذاً فهيا بنا إلى هذه التفكرات:

1- ليس هناك تلازم بين شدّة الهم وأثره في نفس صاحبه وبين حجمه على أرض الواقع؛ قد يحمل الإنسان في داخله هماً كبيراً في غاية الثقل بينما سببه بسيط أو تافه على أرض الواقع!، عندما كنت في الصف الأول ابتدائي استلمت أول كشف درجات في حياتي عقب الاختبارات الشهرية، وذلك ليقوم ولي أمري بتوقيعه، ولسبب لا أذكره قمت (بالشخبطة) على كل الخانات الفارغة في الشهادة حتى تحولت الشهادة إلى لوحة فنية، بعدها أصابني هم لا زلت أذكره إلى الآن بعد مرور 30 سنة، ورغم أني نسيت الآن تماما كيف كانت ردة فعل والدي رحمه الله، وكيف كانت ردة فعل المدرسة، إلا أني لم أنس الهم نفسه وكيف أثّر فيَّ وحَرَمَني من متعة زيارة بيت خالتي حينها! لقد انحفر الهم في أعماق ذاكرتي وقلبي وتبخّر ما قبله وما بعده من أحداث! وضربتُ مثلا بالطفولة لوضوح سخافة همومها، إلا أن الواقع أن الكبار كذلك كثيرا ما يقعون في ذات الشيء.

وفي المقابل قد يكون سبب الهم كبيرا في أرض الواقع لكن صاحبه يحجبه عن أن يسيطر على حياته ومشاعره، فلا يحتلُّ من نفسه إلا مساحة بسيطة، قد تذهب إلى المستشفى وتجد من المصابين بالسرطان من هو أسعد بالا منك، ولربما لقيت في حياتك فقيرا مدقِع الفقر لكنه حين يبتسم أو يضحك فإنه يضحك من أعماق لم تصل إليها في حياتك بعد.

2- أحيانا يعتاد الإنسان على مصاحبة الهموم فتبقى نفسه تعيش دائما في دوامة مشاعر سلبية وإن زالت أسباب الهموم في الخارج، أي أنه يبقى يعيش نفسية المهموم رغم تعافيه على أرض الواقع، وقد يأنس بذلك ويجد في هذه المشاعر السلبية نوعا من اللذة أيضا، ولربما أشعرته بشيء من الشرف والتميز عن الناس!، والإنسان كائن عجيب، (ونفس وما سوّاها)

3- الأسلوب الأمثل عندي للتعامل مع الهم أن يكون الإنسان قادرا على حمله متى شاء، وعلى وضعه متى شاء، معظم الناس عندما يبدأ في حمل همٍّ ما فإنه يظل ملازماً له إلى أن يزول سبب الهم، من مرض أو مشكلة مالية على سبيل المثال، وهذا غير صحيح بلا شك؛ احمل الهم بالقدر الذي يدفعك لبذل الأسباب المقدور عليها لعلاجه، وما زاد عن ذلك فهو ظلم للنفس وإهدار لطاقاتها بلا مسوغ، ولنضرب مثالا بطلاب الجامعة بحكم قربي منهم، فالعديد منهم يحمل هم الوظيفة خلال سنوات دراسته الأربعة فنقول له: استثمر هذا الهم في حملك على المذاكرة والاجتهاد وتنمية خبراتك ومهاراتك فقط، وما بعد ذلك فهو إلى الله سبحانه وتعالى، أما أن تحمله على ظهرك في صباحك ومسائك ويقظتك ونومك فلا، أي احمله ساعتين أو ثلاثة في اليوم وكفى، هل هذا سهل؟ كلا بل هو صعب، ولكنه ممكن.

4- للزمن تأثير عجيب على اضمحلال الهم وتصغيره، وكما يقول دوستويفسكي في بعض رواياته: (دع الوقت يحل الأمر كما لا يحله أي إنسان)، قد لا يحصل هذا لكل أحد، لكنه الأصل والقاعدة العامة، وأوضح مثال على هذا هو فقد الأحبة، فإن الفاقد قد يشعر في بداية الأمر أنه لن يستطيع أن يستمر في الحياة بعد هذا الفقد، ثم يصغر ويصغر حجم الفقد حتى يأخذ مكانه الطبيعي.

5- الهموم التي تقضّت، عندي صفحة في مذكراتي الخاصة أكتب فيها الهموم الكبرى التي كانت تشغل بالي ثم انقضت وانتهت! فيها أكثر من عشر مشاكل عظمى بعضها كنت أعتبره الأصعب في حياتي فترة مروري به، وأطالعها من وقت لآخر لا سيما عند دخول هم جديد في حياتي لكي أذكر نفسي بالبرهان القاطع والدليل اليقيني أن الهموم لا تبقى غالبا، بل لها أجل تنتهي عنده، وما دام أن لكل شيء أجلا، فلماذا أعكّر صفو لحظتي الحاضرة به.

6- أحيانا يُخرج الله الإنسانَ من همه عن طريق هم آخر يحل به ثم ينقضي! فيعرف عظم فضل الله عليه وغزارة نعمه بما ينسيه همه الأول، ودليل هذا ما حصل في غزوة أحد حين أصاب الصحابة الغم والحزن لما وقع في آخر الغزوة من الهزيمة وفوات الغنيمة وغير ذلك، ثم انتشرت شائعة مقتل النبي صلى الله عليه وسلم فأنستهم كل ما سبق من الغموم، فلما تحققوا من حياته عليه الصلاة والسلام برئت نفوسهم من الهم الأول وتعافت تمام العافية (فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم) وسبحان من يدبر الأقدار.

7- أحيانا تكون مهموماً ولا تدري ما السبب، لكن الله يدري، لذلك يُعدّ السجود دائما هو أقرب حل وأسهله، وثمة دعاء خاص عندنا (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن)، وهو من أذكار الصباح والمساء، ولا شك أن الذي يستعيذ بالله في صبحه ومسائه من الهم لن يكون كالذي لا يستعيذ! وللشيطان أثر حقيقي في هذه المشاعر، حيث بين الله أنه يخوف الإنسان بالفقر (الشيطان يعدكم الفقر) وغير ذلك.

8- ليس بالإمكان دائما معالجة سبب الهم في الواقع، ولكن الممكن دائما هو التعامل مع هذا الهم بتحجيمه وتصغيره، أو حتى بإزالته، والدليل على ذلك هو فحوى دعاء الهم والحزن، والذي خصصته بتدوينة: لحظة انكشاف، حيث علَّمنا فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم أن ندعو بأن يكون القرآن الكريم جلاءً لأحزاننا وذهابا لهمومنا وغمومنا، فتأمل في هذا المعنى، وكيف أن الله إذا استجاب لدعوتك فسيصبح القرآن مجلاة لهمك وإن بقيت أسباب الهم حاضرة من مرض أو فقر أو غيره.

9- بعض الهموم علاجها المواجهة؛ بأن يقول الإنسان: وماذا لو حصلت؟ فإن غالب الناس يتعب من التفكير في حصول الشيء تعبا أكثر مما سيحصل على أرض الواقع لو تحقق! بينما لو تفكر بصدق في النتائج والاحتمالات حال تحقق همه فسيرى أنه مهما كبرت المشكلة فإن القافلة تسير والحياة ستمضي في كل الأحوال.

ختاما: ماذا عنكم أيها المتفكرون في الملحوظات السابقة، وما هي فلسفتكم الخاصة بالهموم؟

رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker


اكتشاف المزيد من

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


17 رأيا حول “فلسفتي في الهموم

  1. فعلًا علينا تحمل همومنا وحملها بما لدينا من قدرة وألا نزيد عن ذلك، علينا الاجتهاد بما استطعنا بفعل الأسباب والدعاء والسهر في سبيل النجاح في الاختبارات الجامعية مثلًا، ولكن متى ما فاق ذلك طاقتنا تركناه.. لكن العادة أن يكون الحمل صعبًا وليس تعجيزيا هذا ما تعود عليه طالب مجتهد عندما كان في المرحلة الثانوية ولكن الآن مختلف وذلك بسبب ظروف ليست بيد الطالب؛ كبدء الطالب في أسابيع متأخرة و من ثم تراكم الاختبارات كلها في مدة أسبوعين؛ هذه مدة قليلة جدًا فمدة المذاكرة قصيرة جدا وغير معقولة فكيف سيتمكن الطالب المسكين من استيعاب المادة! وهذا مايحبط حقًا..سيُجبر الطالب على تقبل نتائج غير مثالية غير العادة بسبب ظروف ليست بيده ولكن ذلك كله سيمضي.. ربما هذا النقص لن يُعوض أبدا ولكن علينا تقبله لأنه كان خارج ارادتنا وقدرتنا، ففي النهاية الهم بعد هذه المرحلة لن يبقى للأبد سينتهي غالبًا.
    علينا فقط بالدعاء والتوكل على الله والاجتهاد بفعل الأسباب، وأما النتائج ما علينا سوى تقبلها فإن كانت على قدر التعب والاجتهاد نحمد الله ونشكره وإن لم تكن كما يجب بسبب عدم توفر مدة زمنية معقولة لمذاكرة اختبارات معينة مثلا، فعلينا أن نتقبل بحكم أنها كانت خارج الإرادة.
    فبعد قراءة هذه المقالة خف حزني وهمي قليلا واقتنعت بأن علي تقبل النتائج مهما كانت، فعلًا مقالة رائعة أتت بوقتها.

    إعجاب

  2. جزاك الله خير على هذه المدونة
    وأما التعامل مع الهم فتخفيفه يكون كما ذكرت في النقطة رقم ٨ وذلك بتحجيمه واستعشار الهموم الأكبر التي يشعر بها الغير فضغط الوظيفه أهون من البقاء عاطلا، وكذلك من توفي أحد والداه على كبر يكون حزنه أقل ممن توفي أحد والداه على صغر، وكذلك ماذُكر في النقطة رقم ٤ عن مرور الوقت ولكن مهم جدا في الوقت محاولة تناسي الهم او تحجيمه حتى ينسى، والتعامل مع الهم صعب ولا يقواه إلا قوي حكيم.
    جنبنا الله وإياكم الهم والحزن

    إعجاب

  3. كل انسان سيقع في الهم وهذا لا شك فيه، والمشكله ليست في الهموم نفسها (لأن الهموم ستقع عاجلاً ام آجلاً)، بل المشكلة في كيفية التعامل مع هذه الهموم، قد تجد شخص لديه مايكفيه من الهموم والأحزان وتجده قوي متماسك يحمد الله قاعداً وقائماً، شخص قد اتخذ الهموم والأحزان الى صالحِهِ وجعلته اقوى سواء كان ذلك من الناحيه الذهنيه او الجسديه وغيرها…، ومما لا شك فيه ان من يتعامل مع الهموم بالشكل السليم سيجد ان إيمانه بالله تعالى قد ازداد، سيجد انه يكثر من العبادات والطاعات، سيجد انه يحمد الله على ما لديه، حتى ولو كانت همومه عظيمه، وأما الشخص (الضعيف ذهنياً) من يسيء التعامل مع الهموم والأحزان فقد اصبح مدخلاً يسيراً للشيطان والوساوس والأفكار السيئة التي قد تضر بنفسه وتضر بمن حوله، كما في المقوله: “الاشخاص المتألمين يتسببون بالألم للناس” وهذه تنطبق خصوصا على الافراد (الضعفاء ذهنياً) الذين لديهم مسؤوليات ورعية، مثلاً اذا كان الأب لايقدر على التعامل مع الهموم فأنه سيؤذي من هو مسؤول عنهم سواء كان ذلك بشكل مباشر او غير مباشر ، لذى لابد من نشر التوعيه وتعليم الناس انه لابد من الاهتمام بطريقة التعامل مع الهموم بالشكل السليم وعدم تهويل الأمور والتحلي بالصبر، والأهم من هذا كله هو الاستعانه بالله والتوكل على الله وعدم التطير والتشاؤم وقراءة الاذكار والقرآن الكريم لأن فيها من المنفعة الكبيره والعظيمه على حياة الفرد ومن حوله.

    اعتذر عن الإطالة وارجو انني قدمت ولو بعضاً من الفوائد من خلال طرحي 🙏

    إعجاب

  4. السلام عليكم 
    برأيي ان الشخص منا يقع في الهم لما اهتمّ له من امر فنحن لا نحزن على شيء غير مهتمين له ولا يعنينا 
    سمعت بمصطلح ” النفس المأساويه ” هو ميول النفس للتشكي و إظهار البؤس لاستجلاب الاستعطاف هو من جهه يشعرنا بوجودنا و أهميتنا في حياه الطرف المقابل و لكنه من جهه أخرى فهو يضر بك و بالنفس الاخرى  

    أما عن فلسفتي الخاصه فلاحظت ان الناس من اكبر أسباب وقوعها في الهم هو تخيل المستقبل و استباق الأحداث قبل وقوعها كما اشرت في النقطة 3 
    ايضاً عدم التخلي عن التفكير و العيش في الماضي كلاهما 
    القناعه بان المشاكل و الهموم هي جزء لا يتجزأ من حياتنا هو اصل مهم و يبقى ما نستطيع تغييره هو تغيير وجهة نظرنا للأمور و استحضار الجانب الإيجابي لأنه في أصعب المشاكل حتى هناك جانب إيجابي 
    استشعار لطف الله شيء دوما يأسر النفس وله مفعول رهيب في هدوء و تسكين النفس 
    عش حزنك و خذ وقتك في التعبير عنه و الغوص فيه و لكن لا تنسى ان حزنك هذا هو جزء من حياتك و ليس كلها !الكتابه و التدوين تساعد كثيرا في رؤيه المشكله بشكل أوضح كانك ترى الصورة من بعيد بعد ان كنت حاصرا تركيزك على نقطه واحدة 
    ارفق بنفسك ليس احد منا بطل خارق يستطيع فعل كل شيء لابد من الأخطاء و هذا يثبت طبيعه النفس البشرية بانها تخطئ و لكن الاجتهاد لفعل الصواب هو الصواب 
    اكثر مشاكل الناس من الناس لذلك من المهم قراءة كيفيه التعامل معهم لتفادي الخصومات الغير ضروريه 

    إعجاب

  5. الهم نعمة؛ هذا ليس كلام تنظيري، تخيّل انك لا تعاني في حياتك! كيف ستجد اللذة بما يحصل لك من اشياء جميلة؟ او حتى كيف ستكون رغبتك في الجنة؟!
    اذا اخذت همومك بهذه الطريقة سترتاح بإذن الله
    في احدى المرات تصفحّت دفتري الذي اكتب فيه احداث بعض ايامي او ما اشعر به بعض اللحظات، المهم اني وجدت من بعض ما كتبت مضحك بل وتافه ان احمل هم مثل هذا الشيء 😂! -مرور الوقت وتخطي ما نحسب انه هم فعّال جدًا في طريقة تعاملنا مع مشاعر الحزن وغيرها-
    لكن وانا اقرأ المدونة “تفكّرت” قليلًا مع نفسي وتذكرت الصفحات في دفتري واكتشفت انها لا تحوي اي هم من المفترض برأيي ان يكون هم؛ لأن اغلب البشر اذا حملوا هم شيء اجتهدوا فيه فحمل الهم في احيان كثيرة يساعد على الانجاز، الشاهد استغربت اني لم اكتب اي شيء متعلق ب”هم” أُخروي؛ مثل هم ان اعمل بما حفظت من القران او همي بأن اخشع في صلاتي وغير ذلك! رغم دعائي كل ليلة باللهم لا تجعل الدنيا اكبر همي… شكرًا على هذه المدونة، رزقكم الله جميعًا راحة البال والصبر

    إعجاب

  6. شكرًا على اطرائكم هذا يعني لي الكثير يا دكتور متفكر
    بصراحة مدوّنتكم سبب في اعادة رغبتي بالتعليق والكتابة لكن لم ادرك بعد انها موهبة 🤓
    الموهبة هي ما اراه في تفكّراتكم تبارك الله وهذا الكلام ليس تسريةً عنكم بل حقيقة

    إعجاب

أضف تعليق