
بسم الله، ينظر بعض الناس إلى الصحابة على أنهم مجرد أناس صُلَحاء وزُهَّاد، وهذه النظرة فيها غَمْط لحقيقتهم؛ فإن الناظر لتراثهم- لا سيما أكابرهم- سيعجب من العبقريات الكامنة في أقوالهم، وسيتمنى لو عكف فلاسفة العالم وحكماؤه على هذه النصوص، ولا عجب في ذلك، فهم تلاميذ محمد صلى الله عليه وسلم الذين (يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)، فما أنت ظان بمن حصلت لهم هذه الخصال الثلاثة المذكورة! على أية حال دعوني أطلعكم على نص عميق من تلك النصوص، عميق جدا، من النصوص التي تصلح لعمل (إعادة ضبط المصنع) للدماغ، ألا وهو النص الذي نقله ابن أبي الدنيا وغيره عن الفاروق حيث يقول:
” مَا أُبَالِي عَلَى أَيِّ حَالٍ أَصْبَحْتُ ، عَلَى مَا أُحِبُّ أَوْ عَلَى مَا أَكْرَهُ ، وَذَلِكَ لأَنِّي لا أَدْرِي الْخَيْرَ فِيمَا أُحِبُّ أَوْ فِيمَا أَكْرَهُ ” .
حسنا، دعوني أضرب بعض الأمثلة على أمنيات الناس وأحلامهم ثم نعود لعمر…
المثال الأول: شاب ملياردير، عنده كل ما يحلم به الشباب، لكنه بدأ يشعر بالحرمان من أي صداقة حقيقية حوله، لقد اكتشف أن جميع العلاقات الحالية بعد ثرائه هي علاقات نفعية، لا أحد يصادقه من أجله هو، بل من أجل ماله ، هكذا لم يعد يشعر بالأنس والبهجة التي كانت تجمّل أيام مراهقته مع أصدقائه، إنه يشعر بوحدة خانقة رغم صفوف الطامعين حوله، ناهيك عن أن هناك قدرا من استقراره النفسي الذي كان يتمتع به- يوم كان من الطبقة المتوسطة- قد زال للأبد بعد أن اكتشف أن أي أزمة عالمية لا بد وأن يصل تأثيرها إلى نوع أو أكثر من تجاراته المتعددة شاء أم أبى، هكذا يظل المسكين مترقبا قلقا من تداعيات أي صراع بين القوى السياسية في العالم، لقد صار النظام الاقتصادي العالمي يشبه قصرا من الكروت قد ارتبط آخر كرت فيه بأول كرت، أما اللذائذ التي يغبطه عليها معظم سكان الكوكب، فإنه لا أحد منهم يدري أن معظمها قد ذهب رونقها وزالت حلاوتها التي كانت عليها وقت بداياتها، لأنه اعتاد عليها- بكل بساطة- كما تعتاد أنت على جوالك الجديد بعد شهرين من اقتنائه، لقد أدرك مؤخرا أنه جنى الكثير من الأموال لكنه فقد العديد من المكاسب التي باتت أحلاما بالنسبة له الآن.
المثال الثاني: فتاة جميلة ورشيقة، تنطبق عليها مقاييس الجمال المعاصرة كأنما صممت لأجلها، تخطف الأنظار في كل مكان تذهب إليه، بدأت شركات الدعاية والإعلان والأفلام تتسابق في تقديم العروض إليها، في البداية تماسكت وتمنعت حرصا على حجابها وأخلاقها لكنها انهارت في النهاية أمام الإغراءات فخسرت دينها، وفي أوج شعورها بالشهرة والنجاح بدأت الأقاويل تصل إلى مسامعها وعرفت أن المجتمع ينظر إليها على أنها ليست أكثر من جسد محظوظ بالكثير من جينات الجمال التي ليس لها أي دور في إيجادها بالطبع، لا موهبة، ولا دراسة، ولا أي نوع من أنواع الكفاح، هكذا دخلت المسكينة في دوامة من الاكتئاب وبدأت تتأذى من مخالطة الناس لأنها لا ترى في وجوههم سوى خليط من الحسد والاستهانة أو هكذا يخيّل إليها!
المثال الثالث: أخيرا نال الوظيفة المرموقة، في الوقت الذي تعصف فيه البطالة بملايين الناس، الوظيفة التي جعلته حلم الفتيات، وبعد سنين طويلة من اعتلائه القمة فوجئ بأن زوجته قد خانته بسبب انشغاله عنها وعن قضاء حاجاتها العاطفية والجسدية كأنثى، وأدرك متأخرا أن أولاده قد كبروا دون أي تربية حقيقية، وعندما وصل إلى السن الذي بات يشعر فيه بأكبر الحاجة إلى الاهتمام والتقدير من أسرته أدرك أنه يعيش مع مجموعة من الغرباء في البيت، كل منهم له حياته الخاصة، ليس بينهم شيء مشترك سوى أنهم يعيشون في بيت واحد، الآن عرف أنه كان عبدا للوظيفة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، عبد ولكن ببذلة أنيقة ومكتب عريض!
السؤال: هل كان الثراء، والجمال، والوظيفة المرموقة خيرا لهؤلاء الثلاثة؟
ثم دعونا نضرب على الجهة الأخرى مثالا بأكثر شيء يخشاه البشر ويكرهونه، إنه الموت، ذلك الجسد البارد المسجّى على فراش، قد خبت حرارته عما قريب بعد لحظات من الغرغرة، حوله أطفال يبكون، وزوجة ملتاعة، هل ترى هذا الحدث المأساوي الكئيب! فإنه قد يكون استجابة مباركة من الله لدعوة رجل دعا بما ورد في السنة، مثل: (اللهم توفَّني ما كانت الوفاة خيراً لي) (وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) هكذا يعلّمنا الحبيب عليه الصلاة والسلام أن الموت قد يكون خيرا لبعض الناس، أي أن الله يريد الإحسان إلى عبد من عباده فيرسل له ملك الموت!
إن غوصة الفاروق لتشير بكل وضوح إلى وجود فجوة مجهولة الأبعاد بين ما نحبه وبين الخير، ووجود فجوة مثلها بين ما نكرهه وبين الشر، وإني لأعتقد أن العديد ممن يقرأ التدوينة قد يدرك هذا المعنى الذي أشار إليه الفاروق رضي الله عنه، ولكنه لم يصل إلى درجة (التشرّب التام له) الذي وصل له عمر، ومن ثم صار غير مبالٍ بجريان حياته وفق أمنياته الشخصية أم لا، وهذا هو الفارق بيننا وبينه، لقد تفكر فيه الفاروق مرتين وثلاثا وعشرا وجرّبه حتى أعاد صياغة أحكامه الأولية ونظرته تجاه كل مجريات أيامه، كأنه اندفن في قاع (اللاوعي) بتعبيرنا المعاصر!
ختاما: ماذا عنكم أيها المتفكرون؟ مبالون أم لا مبالون! أما عني فإني لا زلت مباليا، وإن كنت أقل مبالاة من السابق😢
رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker
اكتشاف المزيد من
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
كم احب هذي العبارة وأراها تطبيق لقوله عليه الصلاة والسلام”عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير…”
لكني اتساءل بصراحة ما هو معيار اللامبالاة الصحيح والضابط بينه وبين الإهمال وعدم الاهتمام أم هي وجهات نظر تختلف بين الناس، كثيرًا ما اُتّهمت باللامبالاة وكانت تطلق على انها صفة غير محمودة رغم اختلافي معهم جملة وتفصيلا، ولكن على اي حال الوصول لدرجة الايمان هذه والاحسان يحتاج برأيي لأمرين: اولهما الدعاء وثانيًا القراءة في سيَر الصالحين امثال عمر خصوصًا في هذا الجانب وقبل ذلك طبعًا النيّة.
عمومًا رزقنا الله وإياكم كل خير
إعجابإعجاب