ثرثرة حول الإجازة

بسم الله، مرحبا بالرفاق، هذه المرة أكتب لكم ورأسي خاوٍ من الأفكار المسبقة، أكتب لكم لأني أردت الكتابة في حد ذاتها، شوقا لكم، وشوقا للتدوين أيضا، ولا شك أن الأفكار ستتولّد تلقائيا مع الكتابة، وهذا أمر يعرفه من زاول الكتابة.

انتصفت الإجازة! ياله من حدث مؤسف، لا سيما لمن راكم عدداً من الأعمال خلال العام الدراسي لكي يُنجزِها في الصيف، وإذ به حين تبدأ الإجازة يكتشف أن عنده قائمة لا بأس بها من المهام التي تتربّص بإجازته كي تفتك بها فتك أسماك البيرانا حين يُلقى إليها اللحم، على أنه لا يُنكر أن الانشغال في حد ذاته نعمة، وأنه إذا قورنت كثرة الانشغال بكثرة الفراغ فإن الثاني أسوأ، لكن الإنسان يطمح دائما في وصفة التوازن السحرية بينهما، التي تكون مفصّلة على مقاسه ورغباته- هذا إن كان يعرف مقاسه-، ولكن الدنيا ليست دائما على ما نشتهيه، يذكرني تغيّر الدنيا وتقلّباتها بتشبيه بديع قرأته للطنطاوي- رحمه الله- في ذكرياته، مفاده أن الإنسان في هذه الدنيا مثل صاحب المركب، يجهز سفينته ويخطط لمسارها ويفرد شراعها ثم يبحر بها، وأن الأقدار مثل الرياح في البحر، قد تأتيك في أي لحظة فتغير اتجاه مركبك أو تلقيك في جزيرة قصيّة رغما عنك وعن كل حساباتك وخرائطك وتدبيرك، وإذا عدنا للإجازة فسنجد ذات المعنى منطبقا عليها بدوره، قد تخطط لإجازتك طول العام، ثم يحصل حدثٌ ما حين تأتي الإجازة فيربك حساباتك كلها، ولا شك أن المؤمن حيث يلقى هذه التغيرات بنفسية المسلم أمره لله، الراضي بأقداره، أو الصابر عليها في أقل الأحوال؛ فستكون عاقبته حسنة، وهذا معنى الحديث: (عجبا لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير)، وقد يكون الخير في غاية الإيلام! كما شرحت هذا المعنى في تدوينة غَوْصة الملهَم.

إذاً تلاحظون يا أعزائي أني أنتقل من موضوع إلى أخر، وأمارس (التفكير الانشطاري)! وهو وصف لطيف نعتني به صديقي العزيز الشيخ عبد الوهاب الغامدي ذات يوم، ونعود للإجازة مرة أخرى، لا أدري إن كنتم قد اكتشفتم هذا أم لا، أم أنكم تكتشفونه ثم تنسونه ثم تعيدون اكتشافه مرة أخرى- مثلي-، أنك حين تكون في خضم العام الدراسي؛ فإنك تنتظر الإجازة باعتبارها المخلّص السحري الذي ستستطيع فيه أن تمارس كل ما ترغب فيه من أعمال وهوايات، فإذا غصتَ في الإجازة فإنك تكتشف أنها ليست بذلك البريق الذي كانت تبدو عليه من بعيد، وليس لها تلك القدرات الخيالية الخارقة التي كنت تنتظرها لأجلها! وتضطر حينئذ مرغما إلى العودة لقاعدة الأولويات، التي هي طوق النجاة دائما وأبدا، فتقوم بجمع الأعمال والرغبات، وفرزها، وتصنيفها بحسب أهميتها وعُجالتها، وكثيرا ما يكون هذا الترتيب الناشيء عن هذا التنصيف مخالفا لأهوائك الشخصية! إن الحياة لن تتوقف عن ممارسة قوانينها وسننها الكونية من أجل أن إجازتك الصيفية قد بدأت!.

ربما يعود جزء من المشكلة إلى ارتفاع معايير الناس في معنى الإجازة الرائعة، لا سيما مع مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تنهال فجأة على شاشة جوالك مئات الصور والمقاطع لأناس يبدون مستمتعين لأقصى درجات الاستمتاع وهم يبتسمون ابتسامات برّاقة، في الحقيقة إن غض البصر عن هذه الأمور قد يكون داخلا في قوله تعالى (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا)، لإن الإكثار من ذلك مفض إلى أن يتنقص الإنسان ما عنده من النعم- التي قد يكون صاحب هذه الصورة محروما منها- وإلى أن يحرم نفسه من الاستمتاع باللحظة الحاضرة.

من جهة أخرى فإن العديد من طلابي الأعزاء قد انتقل بحلول هذه الإجازة من مقاعد الدراسة إلى ميادين الحياة الفسيحة، ألا وهم الخريجون، وباتت الجامعة و(أساتذتها) ذكريات بالنسبة لهم 😢، ولهؤلاء الاعزاء أقول: لا تكن حياتكم فارغة إلى أن تلتحقوا بالوظيفة! بل املئوها من الآن، حتى لا تتكاثر عليكم الوساوس والخواطر الفارغة، واستمروا بتطوير أنفسكم وإنشاء عادات جديدة شُغلتم عنها بالدراسة سابقا (الرياضة على سبيل المثال)، وربما يكون من المواساة لبعضكم أن يعلم أن أستاذكم قد قضى سنة كاملة يبحث عن وظيفة حتى وجد وظيفته التي هو عليها الآن، وتذكروا أن كل شيء مكتوب عند الله سبحانه وتعالى، فلا تقلقوا، وأن الوظيفة عنده سبحانه، فلا تتعلقوا بغيره، واستعينوا على إيجاد الوظيفة بالصلاة (اقرأ تدوينتي التالية: الصلاة وسرُّها الخبيء!).

حسناً كنا نتكلم عن الإجازة، رغم أن كلا منا لديه العديد من الأعمال المدرجة على القائمة حاليا، إلا أني أقول إن أهم الأعمال التي أنصح بها في الإجازة هو الخلوة بالنفس، قبل أن تفكر بالسياحة لاكتشاف أصقاع الأرض قم باكتشاف نفسك، ستجد زوايا مظلمة عندما تقوم بتنظيفها تعود نفسك أكثر إشراقا واستمتاعا بالحياة، ولربما تكتشف أشياء جديدة حول نفسك لم تكن تعرفها! ومن أكثر ما يساعدك على الخلوة بالنفس: ترك الجوال وتقليل استخدامه، وقراءة الكتب التي تساعد على ذلك.

كانت هذه ثرثرتي حول الإجازة يا رفاق، ما رأيكم بها، وما رأيكم في فكرة الكتابة العشوائية التي طبقتها اليوم 😎؟

لمزيد من الفائدة، راجع مقالي: كيف تستمتع بإجازتك القصيرة جداً ؟

رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker


اكتشاف المزيد من

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


6 آراء حول “ثرثرة حول الإجازة

    1. أرسل لي العم شاهر تعليقه مشكورا في الواتس 🌹، وسأنقله كما هو:

      وقفات

      أسماك البيرانا

      التفكير الإنشطاري

      الأقدار والرياح

      المخلص السحري

      الصلاة وسرها الخفي

      قاعدة الأولويات

      جمل قصيرة ومتعددة جاءت في المقال للإشارة إلى حالة التوهج الفكري لدى الكاتب

      وفي خضم تلك الأفكار المتلاطمة والمتضاربة أحيانا نسي الكاتب الإشارة عن الحالة التي يمكن أن نصل فيها إلى أسباب السعادة التي تجعل الإجازة الصيفية سببا أساسيا في وقوعها كليا أو جزئيا وأعني بذلك الإجتماع واللقاءات الأسرية والعائلية بحضور الأبوين والإخوة والزوجة والأبناء في ظل قيادة موحدة أسها الحب والعطف والمودة والرحمة بين أفراد الأسرة والتي يمكن من خلالها إشباع حاجات الأسرة النفسية والعاطفية التي تنعكس إيجابا على حياة الإنسان

      إذ أنه ومن خلال تلك الإجتماعات يجري الإستمتاع بالإجازة بعيدا عن المنغصات حتى في حال حدوث ما تجري به الأقدار فإن الإلتفاف الأسري يمكن أن يكون سببا في تخفيف وطأة تلك الأقدار أما فيما يتعلق بالخلوة مع النفس فإنه وبسبب إيماننا الكامل بالله فمن الطبيعي أن ينشأ ذلك تلقائيا وبدون تكلف ولنعش على قاعدة لا إفراط ولا تفريط نشعر بالسعادة تملأ حياتنا
      أما أسماك البيرانا فلم يسبق لي أن سمعت بها فإن كانت من المباحات فإني أوجه الدعوة لنفسي كي أتذوق طعمها لديكم

      دمتم بخیر

      إعجاب

  1. بصراحة يستفزني وضع أغلبهم حالة الفراغ في إطار سلبي بحت رغم أن مقصدك في التدوينة صحيح وواضح، لكن دائمًا ما ينصب تفكير الناس في إضاعة الوقت عند الحديث عن الفراغ؛ وكأنهم مترادفتين مع أن في حديثه صلى الله عليه وسلم “اغتم خمسًا قبل خمس” قال: “وفراغك قبل شغلك”، فالفراغ في أصله نعمه لكن ما يشاع للأسف عند الأغلب الصورة النمطية السلبية المنتشرة لدرجة إني اسمع بعضهم يتمنون انه ما يكون عندهم فراغ أبدًا مع أنهم اكثر من يفرح بالإجازات، لكن يبدو انه اصبح مربوط بمضيعة الوقت في غير المفيد… وأحيانًا أقول إني أفكر كذا هروبًا من الأشغال والمسؤوليات، الله ينوّر بصيرتنا والله اعلم 🤥

    وعن الكتابة العشوائية جميل تطبيقها بين تدوينة وأخرى لشحْن تفكّرات أكثر 👌

    إعجاب

اترك رداً على د. عبدالله بن ياسين بخاري إلغاء الرد