شيخ الصنعة

بسم الله، من الأسئلة المعتادة التي ترد على الإنسان من محبِّيه، أن يُسأل عمّن أثّر عليه تأثيراً كبيراً في حياته، أو طريقة تفكيره، ونحو ذلك، وفي هذه التدوينة سأحدثكم عن أحد أكثر الأشياخ تأثيرا على رحلتي في طلب العلم الشرعي، والذي درست عليه علم أصول الفقه، وهذا العلم يعدّ- بالمناسبة- أهم الوسائل التي يحتاجها المسلم لممارسة التفكر في النص الشرعي بمنهجية سليمة وقواعد محكمة، هذا الشيخ هو أحد محاسن جامعة الأزهر وجامعة أم القرى، وهو معدود- من وجهة نظري- ضمن سلسلة العلماء البارزين الذين مشوا في أروقة كلياتها الشرعية المباركة خلال 80 عاما تقريبا منذ نشأة كلية الشريعة، والذي رحل عنها عائدا إلى بلده مصر في هذه الأيام، وكان رحيله سبب كتابة هذه التدوينة بالمناسبة! ألا وهو الشيخ الأستاذ الدكتور محمد بكر إسماعيل حبيب حفظه الله.

عندما التحقت في مرحلة البكالوريوس بقسم القضاء كان هناك سلوك شائع عند الأساتذة الجامعيين يتمثّل في الغياب عن المحاضرات في الأسبوع الأول، والذي تكثر فيه طلبات الحذف والإضافة والانتقال بين الشعب ونحو ذلك مما قد يعيق العملية التعليمية؛ فهممنا بالغياب عن المحاضرات وقتها، لكنهم سمّوا لنا أستاذا منضبطا وحازما، قالوا إنه يحضر من المحاضرة الأولى في الفصل، فأورثني ذلك فضولا لرؤية هذا الدكتور..

وعندما حان وقت المحاضرة دخل علينا، كان الداخل شيخا يجمع بين الوسامة والهيبة (واجتماعهما نادر!)، ولشخصيته حضور كاسح في القاعة، وضيء الوجه ويتزين مُحيَّاه بلحية بيضاء، بدأ محاضرته دون أن يضيع منها دقيقة واحدة، ومن هنا بدأ (متفكر) إحدى أهم قصصه في طلب العلم على يد هذا العالم الأزهري الأصولي السلفي المحقق، أما عن الكتاب الذي قام بشرحه والتعليق عليه خلال تلك السنوات الأربعة فقد كان أحد أهم شروحات أصول الفقه، وهو (نهاية السول شرح منهاج الوصول)، وهو الكتاب الذي تلقيت عنه شرحه كاملا وزينت هوامش نسختي بتعليقاته واستدراكاته (ولا أدري هل نال هذا الشرف غيري من طلاب الجامعة) أعني تلقي شرح الكتاب كاملا، فلقد احتجت إلى تتّبع جداوله الدراسية في كل فصل حتى أستكمل شرح بقية المستويات، وقد قرأت عليه في كتب أخرى كذلك؛ مثل (تهذيب الموافقات للشاطبي)، و(قواطع الأدلة للسمعاني)، وكتابه الذي ألفه في مقاصد الشريعة، لكن المنة الكبرى كانت في نهاية السول بطبيعة الحال، وكانت دروس شيخنا جنة من جنان مجالس الذكر، وهي مثال للعلم الشرعي بمعناه المتكامل، الذي يتضافر فيه الجانب الأخلاقي والعقدي والسلوكي والأصولي في خلطة واحدة، فتخرج من المحاضرة، وقد زاد إيمانك وعلمك وعقلك، ليس كبعض تلك الدروس العلمية الجافة، وكانت نفسي تحدثني قائلة: ليس العجيب أن يحضر طالب العلم درسا في التفسير أو الحديث فيخرج منه وقد زاد إيمانه! لكن العجيب أن يخرج من درس أصول الفقه كذلك😅، (هذه الدعابة لن يفهمها إلا طلاب العلم)، وكنت أرى بعين بصيرتي الملائكة تحوط مجالس الذكر تلك، بما فيها من بهاء العلم ورونقه، وقد ألان الله له علم أصول الفقه كما ألان لدواوود الحديد، ومكث في مكة يعلم طلابها ما يزيد على العشرين عاما، وكثرة من أعضاء هيئة التدريس الآن في كلية الدراسات القضائية والأنظمة هم من طلابه، في مرحلة البكالوريوس، أو الماجستير، أو الدكتوراه.

فوائد منهجية، وعلمية، وسلوكية

لا تكمل هذه التدوينة إلا بسرد شيء من زاد الروح وغذاء العقل الذي أطعمنيه هذا الرجل طيلة سنوات دراستي عليه وذلك ما سأبثه في السطور التالية.

عندما درست عليه مقرر مقاصد الشريعة، وضع لنا سؤالا تستلزم إجابته الكلام عن فضل علم الأصول، فكتبت له جوابا مطولا واستشهدت فيه بمقولة أُحبِّها لأحد أعلام الأصوليين يقول فيها: (علم أصول الفقه هو العلم الذي يَقضِي ولا يُقضى عليه)، وهي مقولة يقصد بها صاحبها أنه الميزان الذي يوزن به كل قول في دين الله، وكانت عبّارة فاتنة خلّابة بالنسبة لي، الشاهد أني استغربت عندما وجدت درجتي 99، وذلك لأني كتبت إجابات متقنة، فلما راجعته تبين لي أنه نَقَصَني درجةً بسبب العبارة التي أوردتها، لأنه استشعر فيها إساءة أدب مع الله عز وجل، فتعجبت أولاً، ثم تأثرت ووافقته، فإن هذه الجملة جاءت في أحاديث دعاء الوتر في سياق تمجيد الله والثناء عليه، وتطرق مسامعنا عادةً في رمضان، (إنك تقضي ولا يقضى عليك).

وفي مرة من المرات قرأت عليه في بعض الكتاب العبارة المشهورة التالية: (كَانَ الْعِلْمُ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ،ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْكُتُبِ،وَمَفَاتِحُهُ بِأَيْدِي الرِّجَالِ)، والتي تدل على أهمية التلقي عن الأشياخ وخطورة الاكتفاء بالقراءة من الكتب، فقال لي تعليقا جميلا لا زال محفورا في صدري إلى الآن، قال لي: كما أن الإنسان تُفتح عليه فتوحات عند التلقِّي عن أهل العلم، ويفهم مالم يكن يفهمه، فكذلك الأمر عند تدريس الطلاب! يُفتح على الأستاذ حينها من الفتوحات مالم يكن مدرِكا له وقت انكفاءه عن التدريس والشرح، وبالتالي فعلى من أراد هذه الفتوحات أن ينشط في التدريس ولا ينشغل عنه، وقد أثبتت الدراسات الحديثة صحة هذه المعلومة، فإذا أردت إتقانا واستيعابا لموضوع؛ فقم بشرحه للآخرين!.

وأذكر أنه في محاضرة من المحاضرات وَعَظَنا عن دورنا في المجتمع كطلبة علم؛ فقال لنا عبارة لا أزلت أذكرها بالصوت والصورة وكأنها قيلت البارحة- رغم أنه قد مر على هذه الحادثة الآن قرابة 18 عاما- قال لنا: (لو تعلمون ما عليكم من المسؤولية يا طلاب العلم لما نمتم الليل!) فهزتني عبارته هزّا، جزاه الله عنا خير الجزاء.

وفي مرة كنت أقرأ عليه في صحن الحرم، فسألتُه عن حديث (النهي عن الشرب من فيّ السقاء) أي فم القربة أو فوهة وعاء الماء، وهو المكان الذي يُخرج منه الماء مباشرة، وشرعت أذكر له بعض الصور التي تنتفي فيها الحكمة المذكورة من النهي، كأن يشرب الإنسان من فيّ السقاء الذي لا يشاركه فيه غيره، أو فيّ السقاء الذي لم يتبق فيه إلا القليل من الماء ثم يُغسل بعدها، ونحو ذلك من الصور-، فنهاني عن ذلك وقال لي: أنت لا تعلم قطعا ماهي الحكمة المقصودة في الحديث حتى تستجيز الشرب عند انتفائها، فأورثني ذلك تعظيما للنص الشرعي ومهابة له، وهذه مسألة شائكة طويلة الذيول، أعني الفرق بين العلة والحكمة في النص الشرعي وآثار هذا التفريق، وأذكر أن شيخنا أحمد بن حميد حفظه الله قد أرانا ذات يوم رسالة دكتوراه ضخمة عن الفرق بين العلة والحكمة والعلاقة بينهما.

ومن فوائده الغراء التي طربت لها أيما طرب، وتذكرتها مرارا بعد ذلك في دروب الحياة؛ أنه قال لنا ذات يوم: إذا كان ابتلاء العامي أن يسأل عما يجهله من دين الله، فإن بلاء العالِم أن يمسك عن الخوض فيما لا يحل له الخوض فيه، ولا يُفتن بعقله وذكاءه، (وما أصعب ذلك على الأذكياء)، واستدل بقوله تعالى (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا).

أما عن كتب شيخنا؛ فهي عديدة، لكني لا أعرف منها إلا الكتب التالية: (مقاصد الشريعة الإسلامية تأصيلا وتفعيلا) و (المدخل إلى دراسة الشريعة الإسلامية) و(التعليق المأمول على نهاية السول) و (سلسلة أصول الفقه وفق منهج أهل السنة والجماعة)، وهذه السلسلة هي أحب كتبه إليه، وفيها عصارة فكره وعلمه، ولعل من يقرأ هذه التدوينة من طلابه أن يشاركنا في خانة التعليقات ببقية كتبه، وروابط شرائها في النت إن تيسر.

ختاما: رغم أني من أكثر طلابه استفادةً منه، فقد أكون- للأسف- من أشد طلابه تقصيرا في وصاله، لكني أرجو الله أن يكون له غاية الأجر والثواب فيما أنشره هنا وأمارسه من عبادة التفكر، لأنه ممن علمني (صيد السمك)، والله خبير وبصير بأثره عليّ سبحانه، وبالتالي فلهذا الشيخ فضل على كل من أحب مدونة متفكر واستمتع بها.

اللهم اجز شيخي عني خير الجزاء، وأوزعه شكر ما ذكرناه من نعم، اللهم أطل في عمره وعمله، وثبت قلبه على دينك، واجبر مصابنا ومصاب جامعة أم القرى برحيله، واجمعنا به في الجنة على سرر متقابلين، يارب العالمين.

رابط الانضمام لمدونة متفكر على التيليجرام: https://t.me/mutafakker

إضافة 1 : أحد محبي الشيخ أمدّنا بقناة تحتوي على بعض خٌطَبه:

https://youtube.com/@al-osool?si=z704C1IhAgdzIB8e

إضافة 2: كما أن أحدهم أيضا أضاف قائمة مؤلفاته:

١… أصول الفقه وفق منهج أهل السنة والجماعة
٢.. مقاصد الشريعة
٣.. القواعد الاصولية القضائية
٤…الشرائع السماوية السابقة
٥.. الاستحسان
٦.. عمل الصحابي ومدى الإحتجاح به
٧…نحو تحكيم إسلامي
٨.. وقائع الأعيان
٩.. التعليق المأمول على نهاية السول
١٠.. علم التخريج ( تخريج الفروع على الاصول )


اكتشاف المزيد من

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


9 آراء حول “شيخ الصنعة

  1. جميل جدا أن يدرك المرء فضل العلم والعلماء خاصة أولئك العلماء الذين لهم السبق في العلم الشرعي

    ومن الواجب على المتلقي أن يكون حافظا للمعروف حتى لا يضيع الفضل بين الناس

    وكما أشرت أخي الفاضل الدكتور عبدالله فإن طلب العلم يتطلب الصبر وملازمة العلماء والبحث والمقارنة وعدم الركون للراحة واللهو والزوجة والولد

    ومن فضل الله علينا أن جعل بيننا من عباده من يؤدى الرسالة ويؤتمن عليها

    وهم على قلتهم إلا أنهم كالنجوم الساطعة في السماء القاتمة

    وما الأسئلة التي دارت في خلدك والأجوبة التي وجدتها لدى فضيلة المعلم الكبير إلا علامة نبوغ كليكما

    وأما الإستشهاد ببعض المفردات والجمل التي لا تحمل تجاوزا بالذات الإلهية كقولك يقضي ولا يُقضى عليه فربما أن الشيخ قد بالغ فيها

    والله بكل شيء عليم

    أما عن شرب الماء من فوهة الإناء فالنهي هنا إحترازاً وليس ضرورة خاصة إذا كان الكأس يخص المستخدم وحده

    أما كتاب التعليق المأمول على نهاية السول فأنا لا أعلم المقصود من نهاية السول

    أرجو التكرم بتوضيح ذلك

    إعجاب

  2. أفادني بعض الإخوة بقائمة مؤلفاته، وهي كالتالي:

    ١… أصول الفقه وفق منهج أهل السنة والجماعة 

    ٢.. مقاصد الشريعة 

    ٣.. القواعد الاصولية القضائية 

    ٤…الشرائع السماوية السابقة 

    ٥.. الاستحسان 

    ٦.. عمل الصحابي ومدى الإحتجاح به 

    ٧…نحو تحكيم إسلامي 

    ٨.. وقائع الأعيان

    ٩.. التعليق المأمول على نهاية السول

    ١٠.. علم التخريج ( تخريج الفروع على الاصول )

    إعجاب

  3. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    جزاك الله خيراً

    الدكتور محمد بكر من بلدتنا، كنا صغارا نلتف حوله وننهل من علمه ونخشع من تلاوته للقرآن في القيام والتهجد ومن دروسه في الاعتكاف وغيره وخطبه، لا نمل من حديثه، كيف؟ وانا اعتبره ممن اذا نظرت في وجهه فقط يزيد إيمانك.

    عندما سافر الى السعودية كنا ضياع، وما ان يرجع، كنا وكأننا حيزت لنا الدنيا.

    احبه في الله، وادعو الله ان يمتعه بالصحة والعافية وان يبارك في علمه وينفع به.

    Liked by 1 person

  4. حتى أنا والله أثر في نفسي
    وقد درسنا المدخل لدراسة الشريعة

    وكان مما انغرس في نفسي وانرسخ في ذهني ما قاله لنا يوما عن حديث جبريل الطويل أنه شرحه في أكثر من خمسين جمعة خطبها بمصر
    وبين لنا كيف انبثقت تلك الخطب وكيف استخرجها باختصار فجزاه الله خير ما جزى معلما عن تلميذه
    وجزاك الله خيرا بوفائك وحسن عرضك نبذا عن محاسن شيخنا
    أحسن الله عمله وأناله رضاه وجمعنا به في الدنيا على ما يرضيه وفي الآخرة مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

    Liked by 1 person

أضف تعليق